أقوال

إن الأمة المستعبدة بروحها وعقليتها لا تستطيع أن تكون حرة بملابسها وعاداتها .(جبران خليل جبران) _______ الصمت ينطق، والخوف ينتصر على نفسه، والجدار السميك يصبح أشلاء متهاوية على الأرض. (عقل العويط)

السبت، 10 نوفمبر 2012

محل بيع الدواجن


هناك أحداث في المجتمع حين كنا صغارا تلفت انتبهنا ولا نعيرها الاهتمام، ولكن سرعان ما تكون لها آثر بمجمل حياتنا ومنظومتنا الفكرية والمجتمعية الحالية، فعلى سبيل المثال محل بيع الدواجن، كثيرا ما كان يلفت انتباهي عندما كنت صغيرة، فلذلك الدكان تأثير على واقعنا المعاش حاليا، ليس في وجوده وإنما في الفكرة التي انطوت عليه بعدها.
الجزار ( وربما تكون تسمية جزار لذلك العامل لا تستساغ للقارئ أو المجتمع، فالجزار بالنسبة إليهم هو من يذبح الحيوانات ذات الأحجام الكبيرة ) الذي يعمل في المحل يمارس عمله بكل هدوء وروية من قطع لعنق الدجاجة، وإزالة ريشها عن الجلد، وتقطيعها ومن ثم تسليمها لزبون، ولا يهتم أو يعير اهتمامه لمنظرنا حال الدخول إلى محله، فرائحة الدجاج المحبوس في القفص بانتظار موعدها لذبح، ورائحة الدجاجة التي نزع الريش عنها، ورائحة الدماء التي تعبق في أروقة المحل، ورائحة طعامها الممتلئ بالماء في القفص، كل تلك الروائح و المشاهد التي تتلقفنا حال دخولنا باب المحل، لا تثير لدى العامل أي حنق، فهو يعلم أن تلك المشاهد سرعان ما تتلاشى حال استجابته لطلب الزبون، فهو يمارس روتينه المعتاد في المحل من شرب الشاي والاستماع للإذاعة وقراءته للصحيفة، ببساطة! ولكنها حالة نفسية واجتماعية متجذره في أفراد المجتمع، فنحن سريعا ما نعتاد على تلك المشاهد ولا نتأثر بتلك الروائح، ليقننا أن شعورنا سوف يتلاشى ما أن يحل الظلام في العين.

ذلك هو الإنسان في المجتمع، سريع التعود على المناظر البشعة وكأنه يخلق تلك الظروف التي يعيشها، فذلك الجزار هو صورة الأحداث اليومية التي تحدث في العالم من إرهاب وقتل وحروب وقيد، ما أن نراها تمتصنا في تلك البؤرة وتأخذنا إليها لنعتاد عليها، وتصبح غذائنا اليومي بدون مقاومة تذكر منا.
صورة المشاهد التي تعرضها شاشة التلفاز يوميا ( الحروب والإرهاب والأحداث العالمية وكذلك الحوادث المحلية التي أصبحت غذائنا اليومي) لا تشكل أي تأثير في فكر الفرد مجتمعيا، سوى بمقدار دخوله للحدث لحظتها، كلحظة دخوله لمحل بيع الدواجن، فقد أعطتنا تلك الأحداث مناعة ضد المقاومة وعدم الرغبة بالتفكير فيها، كالمخدر طويل الأمد لا نصحو منه، شبيه بتعودنا على رائحة محل سلخ الدواجن.

الحدث التي أطلعتنا عليه بعض الصحف وشاشة التلفاز، ومواقع الانترنت لمنظر طفلة في عمر السنة، وقد فصل رأسها عن جسدها بصورة وحشية، لا تكفي الكلمات لوصف تلك البشاعة التي مورست بحق تلك الطفلة السورية، حين انتفض جسدها ساعتها ولم ينتفض إليها أحد، ولم يهتم أحد بحجم الوجع الذي ألم بأسرتها وهي ترى البراءة في جسد طفلتهم بدون ابتسامة وضحكة وجهها، ما ذنب تلك الطفولة التي مارس الجزار البشاعة في حقها، ونحن نتابع تلك المشاهد بصورة دائمة وما عدت تؤدي إلى ردة فعل تذكر.
ومشاهد الأنهر من الدماء التي تتنافس المواقع الإخبارية على نشرها، وكأن تلك المناظر ما عدت تؤثر في أحد، وأصبح الإنسان في المجتمع لا يعي معنى الإنسانية،
وفي المقابل أتفاجأ بحجم تلك الانتفاضة التي شحنت لها كل الغضب والحقد في المجتمع العربي والعالمي ( الفلم المسيء )   فجميع الشبكات الإخبارية والحكومات العربية فعلت المستحيل لإيقاف فلم سخيف لا يمس الإنسانية في شيء، سوى أنها لحظات خيالية لكاتب أراد أن يصور أحداث لا وجود لها.
فهذا التناقض في الإنسان الذي دائما ما يبحث عن الوجود في الحياة، ودائما ما تنتابه رغبة بالحضور في أنفاس الآخرين، نجده غارقا في تناقضات يجهل أسبابها، مسوغة أحيانا على ما تنطوي عليها الأحداث التي تمسه تاريخيا أكثر من أن تحرك شعره من مشاعره الإنسانية، فكلما حاول أن يخطو خطوته إلى الأمام، انغرزت قدمه في تربة لم يصنعه هو، بل كانت لمزارعين وضعوا بذور تناسبت مع مناخ أجوائهم، وما عادت تصلح لوجود تلك الشجرة بيننا الآن، فما يظنه الآن دفاعاً عن أفكار سابقة وضعته في حالة عجز عن الحراك، فهو يستنسخ عدد كبيرا من الأفكار والمواقف التاريخية السابقة بصورة مشوهه، ويجر من حوله على التمسك بها بدون وعي.
محل سلخ الدواجن وزبائنه، شبيه بحالة الفرد في المجتمع اليوم، فالأحداث التي يمر بها ما عادت تؤثر فيه.

نشر بجريدة الرؤية بتاريخ 26/ سبتمبر/2012 


ليست هناك تعليقات: