أقوال

إن الأمة المستعبدة بروحها وعقليتها لا تستطيع أن تكون حرة بملابسها وعاداتها .(جبران خليل جبران) _______ الصمت ينطق، والخوف ينتصر على نفسه، والجدار السميك يصبح أشلاء متهاوية على الأرض. (عقل العويط)

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

مدخل حول ‏ ثقافة اضطهاد المرأة عبر التاريخ

المرأة في الديانة الهندوسية

تبادر كثيراً في ذهني حين كتابتي لمقالي السابق "هل المهر المادي إهانة للمرأة؟" موضوع المهر في الهند، فكما هو معروف فإن المرأة في الهند هي التي تقدم المهر للرجل، وحين نتبع حال المرأة في الهند نجده ليس أفضل من حال المرأة في الوطن العربي، فهناك مشاهد كثيرة وحالات يمارس فيها العنف ضد المرأة بصورة عنيفة وإجرامية واضحة للعيان وأمام أعين القانون، ولكن التحركات لتحريرها وإيجاد الحلول بطيئة جداً وتكاد لا تذكر.
في تاريخ الديانة الهندوسية وتحديداً في بدايتها، كان وضع المرأة يحسد عليها، فقد كان لها دور مميز ومهم في المجتمع الهندي، وكان قياديا وفعالا، وتحديداً في الفترة المقسمة تاريخياً بفترة ازدهار الفلسفة الهندوسية، ووجود مجموعة من النساء الفلاسفة (مثالا عليه أبالا وغوشا Ghosha, Apala) وتحصيلها لأعلى الدراسات والثقافة كعلم الفيدا الذي يعتبر من أقدم العلوم التي عرفها الإنسان لتفاعله بين الوعي والذات، يرجع ذلك بكون المجتمع الهندي مجتمعا زراعيا، يعتمد كثيراً على المرأة العاملة التي كانت تساهم في كل الأعمال وتشارك الرجل حتى في ساحات القتال، وبذلك نجد أن المرأة الهندوسية في بداية الديانة نظيرة للرجل ولا يوجد مجال لم تسهم فيه، فالديانة الهندوسية كانت تعتبر الأرض أمّا ولا يحسن الاعتناء بالأرض سوى المرأة، لذلك كان وفاء الشعب الهندي عبر التاريخ السابق للمرأة موضع فخر، ونجد في نصوص الديانة الهندوسية أن المرأة كانت تُدعى المرأة الفاضلة وكانت الآلهة الهندوسية ترضى عن عبيدها حين يتم تكريم المرأة بل وعبادتها، وكذلك كانت للمرأة حقوق وأملاك لا يتم المفاصلة عليها، فقد كانت تمتلك أراضي زراعية بحسب شريعة الديانة الهندوسية أن الأملاك والحقوق فقط للمرأة، ولا يتم استخدام تلك الأملاك من قبل الأب أو الأخ أو الزوج إلا في حالات الطوارئ (كالمجاعة، والحروب، أو للأعمال المقدسة) وبما أن المرأة كان وضعها قياديا في الهند سابقاً نجد بالتالي أنها قادرة على اختيار شريك حياتها، وحاولت الاطلاع عبر هذا المقال عن تاريخ المهر في الهند كذلك، وبحسب الأطروحات الموجودة نجد أنه بسبب وضع المرأة القيادي وحرية اختيار شريك حياتها فإن الوضع السابق للرجل كان بسيطا لذلك تقدم عائلة الفتاة هدية للرجل التي تختاره لها كنوع من الامتنان له ومساعدة لبناء حياتهما معاً، ومحاولة كذلك منهما لتحسين ووضع مكانة مادية واجتماعية لذلك الرجل الذي تم اختياره من قبل ابنتهم للزواج منه.
خلال القرن السابع إلى التاسع ميلادي، نجد أن المرأة الهندوسية كان لها مكانة ثقافية عالية حتى من قبل المرأة ذات الدخل المادي المحدود، فقد برعت في الرسم والشعر والموسيقى، من ضمنهن Rajyashree شقيقة الإمبراطور الهندي Harshvardhana الذي كان تلميذ بوذا، فقد كان هذا الإمبراطور يستشير أخته في كثير من المسائل المختلفة التي تخص البلاد، كما أن النساء كن قادرات على تعلم اللغة السنسكريتية وبراكريت؛ اللغتان اللتان كانتا تختصان بالديانة الهندوسية والمليئة بالثقافة والأشعار التاريخية القديمة للهند، كما كن قياديات في الشؤون السياسية.
وبالرغم من ذلك نجد أن وضع المرأة الهندوسية قد تغير بمرور التاريخ، وخاصة بعد احتلال دول أوربا للهند وتقسيمها إلى دويلات يتنافس الجميع عليها، ونشرهم لثقافتهم الغربية الغريبة عن المجتمع، بالإضافة إلى تأثر الوضع الاقتصادي للهند، فالاحتلال استغل موارد البلاد وبالتالي زعزع من وضع المرأة الاجتماعي الذي كان أساس المجتمع الاقتصادي في الهند، مما أدى إلى المرأة لاتباع نظام ساتي "Sati" الذي تضحي فيه المرأة بنفسها في محرقة زوجها الجنائزية آثناء حرقة بعد وفاته أثناء محاربته الغزاة، وبالرجوع إلى مصطلح ساتي التاريخي فهو مشتق من الإله ساطي إحدى آلهات الهندوس التي تروي الخرافة أنها ضحت بنفسها بعد موت زوجها، تعبيراً عن ولاها له، ومن هنا احترمت المرأة التي تضحي بنفسها واعتبرت امرأة صالحة من حيث تلك الأضحية التي ستنهي حياتها من أجله، أي التعبير عن الحزن الشديد لفقدان شخص عزيز، والذي يعتبر وفاته بالنسبة إليها إهانه ومذلة لها، كما أنه في أحدى الدراسات يسمى الموت طوعاً "الانتحار" وهو لا يقتصر فقط في الديانة الهندوسية بل في مجمل الثقافات العالمية من حيث ولاء أقارب المتوفي له سواء أكان أبا أو أما أو أختا أو أخا. الخ، ومن جهة أخرى فأن المرأة المتوفي زوجها تعتبر منبوذة إن لم تقدم على هذه الخطوة فيجبرها المجتمع على الإقدام عليها مرغمة، وبالرغم من أن الاحتلال حاول منع مثل هذه الحوادث ولكن وضع المرأة أصبح ينخفض لاسيما في الناحية الاقتصادية، وأصبحت حقوقها يوماً بعد يوم في التردي بسبب اهتزاز ثقتها بنفسها وتدني أوضاع الهند الاقتصادية، وبالتالي ظهرت مشاكل عديدة ومختلفة ضد المرأة على سبيل المثال ظهور جرائم القتل بسبب المهور، فالفتاة تقدم على الانتحار أو تقتل على يد الأزواج أو الأصهار في محاولة منهم لابتزازها، فالمجتمع أصبح يستخدم شرائع الديانة الهندوسية في مسألة الزواج الذي كان فيها المهر عبارة عن هدية تقدمها المرأة تكريما لزوجها، أصبحت في الوقت الحالي مجبره على دفع مبالغ فوق طاقتها مهراً له، كتقليد وشريعة دينية مطبقة في المجتمع، ولذلك لا تستطيع الدولة في الغالب التدخل إن لم يتم صياغة قانون يمنع المهر الذي يعتبر من شريعة الديانة الهندوسية الديانة المنتشرة في الهند والمتسببة حاليا في القضايا الإجرامية والإرهابية والعنيفة ضد المرأة، وبالرغم من أن المجتمع الهندي الحالي مجتمع علماني مدني في مجمل قوانينه، إلا أنه في هذه القضية لم يستطع السيطرة على وضع المرأة إلا بمحاولة بسيطة بدأت تظهر قليلاً بمساعدة منظمة حقوق الإنسان.

النقطة التي وددت طرحها حول هذا الموضوع أن وضع المرأة يتغير بحسب ثقافة المجتمع واقتصاده، ويتأثر بحسب تسلط جماعة على نظرتها الدونية ضد المرأة، ومحاولة شرعنة الاضطهاد ضدها في كل محاول منها للتحرر، وأن القانون يصاغ في المجتمع أو يتغير بحسب مصالح جماعة أو ثقافة مسيطرة في المجتمع، وللأسف فإن الكثير في مجتمعنا يعتبر حقوق الإنسان قوانين غربية لا يجب أن يتبناها العرب، فهل الحرية مقصورة على مجتمع دون آخر؟ وهل الإنسان يختلف عن إنسان آخر؟

نشرت في جريدة الرؤية بتاريخ 5/أغسطس/2013م

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

غياب علم الفلسفة في المنهج الجامعي إلى متى؟



الفلسفة هي أحد أهم العلوم الإنسانية المعنية بنظرة الإنسان إلى الكون، وهي عبارة عن سياق تاريخي لمجموعة من المعارف والأفكار لماهية وجود الإنسان على الأرض، بأسلوب واع وعقلاني وأفكار منضبطة ومتناسقة ذات زخم من الاستنتاجات لمجموعة من الاختلافات الناتجة من البيئة الفكرية للبشر، كما أنها تعنى بطرح المشاكل العامة والأساسية المرتبطة بالواقع المعاش، كالوجود والمعرفة والقيم والسبب والعقل واللغة. اعتمادها الأساسي على الحجة العقلانية، العقلانية التي هي أساس الفلسفة، فهي تركز على المعرفة العقلانية كمصدر منطقي وتلقائي وطبيعي للاختلافات الفكرية، كما أن الفلسفة تتطرق إلى المعتقدات الأساسية والمفاهيم والمواقف لدى الأفراد والجماعة.
كلمة فلسفة تأتي من التاريخ اليوناني القديم وهي تعني حرفياً "حب الحكمة"، وأول من استخدم لفظ الفلسفة هو الفيلسوف اليوناني فيثاغورث، ومن ثم انقسمت إلى مجالات مختلفة منها المعرفة والمنطق والميتافيزيقيا والأخلاق وعلم الجمال، لتبرز أهمية علم الفلسفة في اكتساب المعرفة من العالم، وبالتالي فهمه واستنباط استنتاجات حول طبيعته، لإدراك الوجود بطرق مختلفة ومتنوعة، للبحث واكتشاف الحقيقة، فلكل منا له فلسفته الخاصة في الحياة ومناهج معينة يحددها بحسب مقدرته للوعي بأهمية البحث عن الوجود وأهميته بالنسبة إليه، ولا يتم ذلك سوى بالإدراك، أي بمعنى التحفيز الحسي للدماغ كشكل من أشكال النشاط الفكري المستقل، ينتج عنه الإدراك الواعي بالكيان والذات والآخر والكون من حوله. والمعرفة ليست تلقائية بل تحتاج لمحفز وهو الإدراك، من خلال البحث عن المعرفة الخام بدون تأثير الآخر أو تلقينها له، وبالتالي دمجها مع المعارف الأخرى التي استنبطت في السابق، كي تكون بين الإنسان والعالم صلة خارجية متواصلة منبعها فكري في الأساس، فهي لا تجامل بل تحلل المواقف والأفكار بحسب رؤية إنسانية بحته، خاضعة لنظريات مقسمة تحاول استيعاب الاختلافات التي يمر بها الإنسان، كما أن الفلسفة بالنسبة لي هي نوع من أنواع الفنون التي تكشف الجمال الفكري للإنسان، فهو تحاول أن ترسم الأفكار الخام بحسب رؤى خاصة للحياة، كما أن كل حركة عبر التاريخ "فاشية، ماركسية، ليبرالية، ديموقراطية الخ" استمدت من فلسفة خضعت لتغييرات فكرية لدى الإنسان كنظام فلسفي خضع له هو بالتالي، فالإنسان قائد نفسه من خلال القيم والأفكار والتساؤلات الفلسفية التي دمجها مع الواقع والمعارف التي اكتسبها، ولكنه كذلك يتأثر بفلسفة الآخرين للحياة وهذا وارد من خلال ارتباطه الوثيق بالجماعة.
قيمة الفلسفة هي بتأثيرها على الدماغ لحثه على التفكير، ولا يحدث ذلك إلا بصفاء الذهن لأجل المساحة الخاصة لاستخدامه، فهي تعطي الإنسان المجال للإجابة عن التساؤلات التي تثير الريبة لديه، أو ربما تعطي له مساحة للتشكيك بأفكار غير إنسانية كتفاعل لابد منه، ولا يتم ذلك إلا عبر دراسة أكاديمية مميزة تخضع للتاريخ للنقد وطرح التساؤلات حولها، ولكن للأسف فأن التجربة الأكاديمية للدراسة المنهجية للفلسفة لا تتوفر في مناهجنا التعليمية، ولأسباب غير معروفة وواضحة، أو ربما لأسباب تختص لجماعة محددة ترفض علم الفلسفة بسبب كونه علما يُخضع جميع العلوم الأدبية للتحليل والنقد، فالفلسفة منهج يختص بالتأمل العقلاني الحر الغير خاضع لأي مورثات تؤثر على الإدراك المعرفي الواعي، وإبداء الرأي حول المورثات التاريخية السابقة كحلقة نقاش تحيي لدى الفرد نشاط دماغه، والسعي إلى تغيير الأوضاع والأفكار البالية باستمرار وفق المعطيات ومتطلبات العصر والإمكانيات المتاحة، فيتحرر التفكير الواعي الناقد المبدع المجدد من سياسة الاستبداد والفساد، وللأسف فمؤسساتنا الثقافية تهمل الجانب الفلسفي بشكل ملحوظ جدا، ولا تعطيه أهمية، ونشرت بالمجتمع ثقافة الانشغال عن تنمية وتغذية الدماغ كثقل لا يستطيع الفرد العادي تنميته واستبدلته بالبحث عن لقمة العيش والهوس بالجري وراء التكنولوجيا الرقمية وشبكات التواصل.
تطرق الكاتب علي الرواحي في كتابه "الأصولية والعقلانية" في ملحق: غياب مادة الفلسفة من المناهج التعليمية العمانية، تساؤلات حول الأسباب من غياب الفلسفة عن النهج التعليمي، ووضع دراسات مميزة عن الأوضاع التعليمية في السلطنة، وأعداد التخصصات المتوافرة فيها مع الكليات الخاصة أو الحكومية، بالإضافة إلى نتائج الإيديولوجيا الرسمية المستقبلية وسأضيفه في المقال كضرورة لابد منها: "بناء على المقدمات الإحصائية المذكورة في الكتاب، نجد أن هناك الكثير من التخصصات تم تغييبها بشكل مؤسسي ممنهج من أهمها طبعاً: الفلسفة، وعلم الاجتماع" هناك تخصص في الجامعة يخرج موظفين وليسوا باحثين"، وتخصص الأنثروبولوجيا والمنطق ونظرية المعرفة.. الخ، هذا التغييب الممنهج أدى إلى ضمور، إن لم يكن اختفاء النزعة الإنسانية والفلسفية في الأعمال المكتوبة على سبيل المثال، فبحسب الاستقراء السابق للإنتاج المعرفي، لم نجد أي عمل محلي يناقش قضايا ملحة، ومصيرية، بأسلوب فلسفي أو فكري، كالحرية والديمقراطية ومفهوم الدولة ومفهوم الوطنية.. وغيرها من هذه المواضيع التي تشير إلى حيوية الطرح الثقافي، وحركة الفضاء العام".
ويضيف علي الرواحي أن "ضمور الفلسفة أدى إلى تقلص دور الكاتب العماني، وتهميشه إلا ما ندر، وانحسار هذا الدور في الكتابات الإبداعية والأدبية، ثم يطرح تساؤلات مهمة حول الفلسفة: هل الفلسفة إيجابية للفرد بشكل خاص؟ والدولة بشكل عام؟ ام سلبية؟ ولماذا؟ فالفلسفة عبر التاريخ تعني بضرورة إحياء المناقشات حول التساؤل والشك والنبش والحفر والتقصي وعدم الركون للأجوبة الجاهزة في مختلف الجوانب. الفلسفة تعني الحيوية وتجاوز الذات وخلق المفاهيم وهدمها، أي بمعني إعادة توليد الثقافة الفلسفية باستمرار"، ومن ثم يتطرق علي الراوحي إلى مساهمة الفلسفة في التنمية، "ففي الجانب الفكر المؤسسي تتجاوز الفلسفة الفكر التقليدي بكل جوانبه القبلية والعرقية والمذهبية وتهتم بالمواطن على أساس الإنتاج والكفاءة، ومن ناحية الفلسفة والتنمية فهي تعني بتنمية الشأن العام مقابل المصلحة الفردية للتفكير بتنمية الدولة من قبل الجميع، يعني أن الآخر يتم قبوله بل وتشجيع اختلافه مع الذات الأمر الذي يؤدي إلى انتشار التسامح بين الجميع، كما أن المرأة والفلسفة تعنى بتحقيق الفضاءات الفكرية المتنوعة التي تسهم في جعل دور المرأة مشاركا فعليا وليس شكليا في المجتمع"، ومن ثم يطرح دور الفلسفة والوعي الجماعي الذي يساهم في بناء المبادرات الفردية للمصلحة العامة بعيداً عن التأثيرات من قبل المؤسسات الفوقية.
ومن أجل ذلك نحن بحاجة ماسة إلى تدريس علم الفلسفة وتخصصات العلوم الإنسانية في التعليم الحكومي العام لما لها من دور أساسي ومهم في بناء فرد قادر على البحث عن المعارف العقلانية الواعية وإدراك حاجياته من الحياة بوعي، فغياب علم الفلسفة يعني غياب الحرية، حرية الفكر والرأي والتعبير التي هي أساس أي دولة تهتم بتنمية قدرات الإنسان الفكرية لأجل التنمية الثقافية التي هي أكبر محرك للتنمية الاقتصادية في أي دولة.



نشرت في جريدة الرؤية بتاريخ 29/يوليو/2013م

الاثنين، 22 يوليو 2013

هل المهر المادي إهانة للمرأة؟


قد يثير عنوان مقالي انزعاج شريحة النساء في المجتمع والأسرة، ولكن لنتريث قليلاً ونفكر لسبب كتابتي لهذا المقال. المهر في العرف التراثي حق مالي للمرأة على الرجل قبل معاشرته لها بعقد الزواج، ولكن هل المرأة تشترى؟ هل المرأة تعتبِر المهر المادي ثمنا لجسدها وفكرها؟ هل الزواج لا يتم إلا بالحق المادي؟ هل بالفعل المهر المادي حق؟ وإن كان في السابق يعتبر كهدية يهديها الزوج لزوجته، ولكنه دخل مع مرور الوقت في سوق الارتفاع كسعر الأسهم التجارية! وليت المهر مثلما يدعي البعض يحفظ كرامة المرأة، فلاتزال هناك نساء يمارس ضدهن الرجل العنف في الأسرة أو تطلق وترجع إلى بيتها وقد تلاشى ذاك المهر الذي زرع في فكرها بأنه قادر على حمايتها. الذي تحتاجه المرأة هو المهر المعنوي، المهر الذي تبحث فيه المرأة عن الوعي وإدراك حس المسؤولية من جانبها وجانب الرجل، ذاك المهر الذي تجد فيه المرأة الحب والتفهم والثقة باختياراتها لشريك حياتها.
تغير مفهوم المهر مع مرور الوقت وأصبح شأنا معنيا بالأسرة والقبيلة وليس شأنا خاصا بالمرأة أو الرجل والزواج، وغالباً ما يرتفع سهم المهر عندما يكون الشاب من قبيلة مختلفة عن قبيلة الفتاة التي يتقدم إليها، وكل هذا بسبب حجج نفسية أكثر من كونها إشكالية واقعية، فهل المهر يخفف من ابتعاد الفتاة عن منزل أهلها أم هي حجة لتعجيز الشاب مادياً؟ أوليس الأولى أن يكون ذلك المهر هو لبناء الحياة الزوجية معاً؟ وإن كان بسبب خوف الأهل على الفتاة وابتعادها عن حضن الأسرة فهل ذلك الخوف يتلاشى بارتفاع سعر المهر؟ ولمَ في الأساس يتم تزويجها في ظل الخوف من المتقدم لخطبتها؟
أين وعي المرأة المتعلمة في أحقيتها في اختيار شريك الحياة وليس في اختيار رقم المبلغ المحدد للمهر؟ ومع ذلك للأسف فإن المرأة المتعلمة والموظفة ترتقع قيمتها للمتقدم لخطبتها، فيتحجج الأب والأم بكونهم ربوا الفتاة وتعبوا عليها ويجب أن يدفع الخاطب مهراً أكبر يعوض عليهم قيمة تربيتهم للفتاة، فهل المهر لها أو للأهل؟ وهل التربية أصبحت تجارة يتم التفاوض عليها حين يأتي أوان الفتاة أن تستقر مع زوجها في بيت لوحدهما؟
عدم الارتباط عن حب هو أحد الأسباب لوجود المهر، وللأسف ينتشر كثيراً في مجتمعنا الزواج بدون حب وقد أصبح عادة يتعامل معها الجميع ويضع لها مبررات مختلفة غير منطقية أو واقعية، وعلى سبيل المثال لتلك الإشكالية وما تخلفه من مساؤي زواج الرجل الكبير في السن من فتاة صغيرة في السن، فهو يستميل الأسرة للموافقة عن طريق أن يدفع لها مهرا كبيرا جداً، ذلك المهر قادر على تقديم الفتاة الصغيرة على طبق من ذهب للرجل العجوز، فالفتاة لا تعي هنا ولا تستطيع أن تقدم للرجل الكبير في السن حاجياته ولا يستطيع هو في المقابل أن يستوعب طفولتها، مما يؤدي إلى خلق مشاكل في بداية حياة الفتاة التي ستمر بتجربة غير قادرة على استيعابها ومن ثم ترجع إلى منزل أسرتها مطلقة أو ستحمل الكثير من المشاكل النفسية في حياتها، وبالتالي فإن الأسرة -وهذا مثال كثير على الأسر الموجودة في المجتمع- لا توافق على الشاب إلا اذا استطاع أن يقدم مهراً يثقل كاهله، وبالتالي يفقد الزواج مبدأه الأساسي بكونه أمانا عاطفيا، ليدخل في زوبعة التجارة المادية لمن يدفع أكثر ثمنا للمرأة، وذاك المبلغ الذي دفعه الشاب في أول حياته سيؤدي إلى تراكمات ماديه وديون تسبب بحالات طلاق أو مشاكل أسرية في كثير من الأحيان، ولذلك يجب على المرأة أن تعي أن المهر المادي الذي يقدم لها هو إهانة لها و يدل على أن الرجل قادر على استمالتها عن طريق مبلغ مادي، ويجب عليها أن تثبت للمجتمع أنها قادرة على تكوين أسرة وأن تشارك الرجل همومه ومقدرتهما على تكوين أسرة صغيرة من مبادئ الشراكة الزوجية التي ستتم بينهما، فالمرأة التي عاشت في بيئة مليئة بالثقة وتعزيز ثقافتها ووعيها لا ترضى أن تتزوج من شاب غير قادر على بناء أسرة.
وضع المجتمع الحالي وما يطرأ عليه من متغيرات لا يجب أن يزعزع بناء الأسرة، ويجب أن يكون هناك مقدار كاف من التسامح والبساطة من قبل الأهل كي يتم تكوين تلك الأسرة، فليس من المعقول والمنطقي أن تعتبر الأسرة المهر موضع افتخار وتباهٍ بين الجميع، وإنما الافتخار بقدرة أبنائهم والثقة بهم على تكوين وبناء أسرة قادرة على تحمل المسؤولية بدون فرض المهر، فليس المهر هو الذي يكوّن الأسرة وإنما الوعي، وعي الرجل والمرأة، فللأسف هناك الكثير من الأسر تتباهى بالمبلغ والذهب الذي دفعه العريس لابنتهم، بحجة أن ابنتهم غالية أو بكون ابنهم قادر على الدفع. الحب لا يتم عن طريق البيع والشراء، وإنماء يتم عن طريق تعزيز الثقة في البنت والشاب بالمسؤولية المقبلة عليهم.

المشكلة في قضية المهر، أن أغلب الشباب هم من يعانون منها، والفتاة في الغالب لا تطرح أو تعطي رأيها في الموضوع، لأنها تعودت عرفيا على الصمت، فهي ترضخ لأي قرار أو رؤية يوافق عليها المجتمع، وتعزل نفسها عن الإقرار بتحمل المسؤولية والوعي، وكل هذا نتيجة البيئة الذي حولتها إلى كائن يتكل على الغير، فالمرأة في المجتمع للأسف ترفض الاختلاف وترى نفسها في أن تكون كهذه أو تلك من الفتيات حولها قدوة للمباهاة بما لديها، فيضيع حس الإرادة والإقرار من يدها، وتصبح مقلدة لكل ما من شأنه يدخل في شأن الزواج والأسرة. الوعي فقط والإدراك والثقافة هي من سينتشلها من هذا الوهم، ويجعلها تدرك أن المهر المادي إهانة لها.

نشر في جريدة الرؤية بتاريخ 22/ يوليو/2013م

الأربعاء، 17 يوليو 2013

الأسرة والحاجة إلى جيل جديد

الأسرة والحاجة إلى جيل جديد

يحاول كل جيل جديد أن يجد خطا يتبعه في ضوء المتغيرات المتواصلة والمتسارعة في الحياة، وهم عرضة للكثير من الضغوط السلطوية، منبعها الجيل السابق الذي يظن أن لديه خبرة أكثر منه في الحياة، فتأخذ تلك الخبرة طابع السلطة التربوية ذات المنظومة التوجيهية لسلوك الجيل الجديد في الحياة، فتؤثر تلك السلطة التي مفادها الخبرة على وعي الفرد القادم، وفي منظومة عقلة الباطن، فيتوارث من الجيل القديم طقوسه وأنماط سلوكه ومقدساته وأساطيره، وبالتالي تؤثر على نظرته الواقعية والطبيعية والعلمية للمتغيرات والمعارف المختلفة المتكونة حوله في العالم، كما أن سلطة الجيل القديم تفرض سيادتها بكونها تمتلك السلطة الاقتصادية الأولى في المجتمع فتحاول تحويل سلطة قوى الأيديولوجيا الاجتماعية السائدة في المجتمع ضد الجيل الجديد.
على أن هذه الضغوط التي يمارسها الجيل القديم ضد الجيل الجديد والتي يعتبرها الجيل القديم ثقافة تربوية تمارس عنفا على أفراد الجيل الجديد، فقوة العنف هنا مردها ممارسة التسلط واللجوء إلى أقصى درجاته إنْ استدعى الأمر لأي محاولة للاختلاف لإخضاعه وإلغاء وجوده المعنوي أو المادي بتهديد وضعه الاقتصادي كإحدى صور العنف النفسي أو الرمزي أو المادي "فالقمع في عمقه وهدفه هو أي قسر، ترغيبي أو ترهيبي، يفرض على الإنسان إما القيام بفعل أو الامتناع عنه، سواء في التفكير أو في القول أو السلوك أو العمل، أي أنه نقيض الحرية المطلقة التي هي انعدام القسر" (بيار بورديو/العنف الرمزي) كما أن صورة القمع تتمثل بالنظرة الدونية للآخر سببها التعصبات القبلية أو الدينية أو القومية والسياسية، فالجيل القديم يستهتر بأي محاولة من الجيل الجديد للحوار ويرفضه ولا يقتنع به.
يظهر هذا الصراع بين الجيلين بصورة خاصة في القبيلة والعائلة، كسلطة مبدأها العلاقة بين الصغير والكبير، فيلجأ كبير العائلة في الغالب إلى فرض قوته على الصغير والضعيف، فيتبع للأسف أساليب تنم عن مخاوفه من أي محاولة للاختلاف أو التميز أو ظهور الرغبة بحرية الإرادة الفكرية من كل فرد في العائلة، فتغيب مفاهيم الحب والحنان والمساندة والتعاطف، لتظهر بالمقابل أساليب القمع والازدراء والتهكم، وقد لا يعترف رب الأسرة بالإرهاب الذي يمارسه ضد العائلة وكل ذلك بسبب النتيجة الطبيعية لمفهوم التسلط والقمع، كما أن التراث العربي وضع الإخضاع والطاعة للكبير من أهم أساسيات العلاقات الإنسانية حتى وإن كانت تلك الطاعة تستطيع إنزال العقوبات أو التهديد بها على أولئك الذين لا يطيعون أوامرهم أو طلباتهم، فكيف للفرد في تلك الأسرة أن يتفرد ويتميز ويبدع في الحياة في ظل كونه من التوابع الذي لا يجب أن يختلف عن قوانين الأسرة، إذ الفرد حينها سيتبع طريقين أما التمرد الانفعالي ضدها أو تلاشيه وتقوقعها على نفسه، بدون رغبة في الحياة.
الأمن الذي يحتاجه الأفراد في الأسرة أو القبيلة هو الاعتراف بمقدرتهم على صناعة القرار في الحياة والاختلاف الإبداعي الذي يصل بهم إلى تذوق جمال الحياة، ولكن الظن بأن الأمن هو التسلط والتحكم بحياة الآخرين فأنه ينصع في شخصية الفرد البغضاء والجمود والكراهية وعقدة النقص وفقدان القدرة على التكيف مع مستحدثات الحياة، وبالتالي تنهدم شخصية الفرد القادر على البناء، فالعدوانية التي تمارسها العائلة أو القبيلة تؤدي إلى ولادة القلق وتولد حالات العنف، وقد ذكر الدكتور علي أسعد وطفة في كتابه (بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي) "أن العقاب يعزز العنف وهذه هي النتيجة التي تؤكدها دراسات عديدة في هذا المجال، وبينت أن العدوانية الزائدة ترتبط بحد كبير بدرجة العقاب الصارم وبخاصة عند الصبيان، وتشير الدلائل إلى أن الفتيات اللواتي تعرضن للعقاب الشديد أصبحن سلبيات على نحو كلي وهن يظهرن قليلاً من المشاعر وقليلاً من الميل للعدوانية". بالإضافة فأن ذلك العنف قد يصبح صورة متوارثة بالنسبة للأبن للعائلة التي سيكونها في المستقبل، فتكون تلك عادة استقاها من ثقافة العائلة بدون وعي، وتصبح في الفتاة التي تعرضت للعقاب والعنف صورة للمرأة التي لا تستطيع أن تصنع القرار في حياتها الأسرية في المستقبل، فترضخ لجميع محاولات العنف التي مورست ضدها من أقرب الناس إليها في البدء إلى محاولة عنف وقمع من قبل الجميع في المجتمع.

الإحساس بالدونية من قبل أقرب الناس إلى الإنسان تولد مواطنا بالغ الهامشية والتبعية غير قادر على التحكم بقراراته يسارع إلى استخدام أدوات الثقافة التي كانت تمارس ضده في الصغر لكبت انفعالاته ضد الأشياء التي تحدث حوله، فتلك الثقافة فرضت بداخل فكره التعطيل والتمسك بالعقائد والمورث بدون الحاجة إلى بناء العقول، التي بنيت على الطاعة العمياء بالإكراه، وما يحتاجه كل إنسان هو تحقيق مفهوم الحرية في تقبل الآخر بجميع اختلافاته ومميزاته، القادرة على صناعة ثقافة متجددة وقوية فكريا في المجتمع.

نشرت في جريدة الرؤية بتاريخ 15/يوليو/2013م

الهيمنة الذكورية


 
"من المحتم أن نعتبر المجتمع مثل مكان للتآمر، يبتلع الأخ الذي يملك الكثير منا مبررات احترامه في الحياة الخاصة، ويفرض مكانه ذكراً متوحشاً ذا صوت يزمجر وقبضة قاسية، والذي يرسم بالطبشور إشارات على الأرض بطريقة صبيانية لخطوط الفصل الصوفية تلك التي تثبت بينها الكائنات البشرية بطريقة جامدة ومنفصلة واصطناعية. في تلك الأمكنة يستمر الذكر في طقوسه الصوفية، وقد تحلى بالذهب والأرجوان وتزين بالريش مثل المتوحش، متمتعاً بالملذات المشبوهة للسلطة والهيمنة، فيما نحن نساؤه يغلق علينا في منزل العائلة، من دون أن يكون مسموحاً لنا المشاركة في أي من المجتمعات العديدة التي يتشكل منها مجتمعه". هذا المقطع لفرجينيا وولف تتحدث فيه عن السلطة التنويمية للهيمنة أضافها الكاتب بيار بروديو، في كاتبه الهيمنة الذكورية، حاول فيها الكاتب التحليل الموضوعي لمجتمع منظم بحسب المركزية الذكورية قوة سيطرة الهيمنة الذكورية، ( القبلية والتقاليد) في مجتمع الأسرة و(المدرسة أو الدولة) في الوضع السياسي والحكومي، فتلك الجزئية التي أضافها الكاتب عن الكاتبة فرجينيا وولف صورت المشهد بصورة واضحة جداً عن وضع المرأة في المجتمعات التي تتسيدها الهيمنة الذكورية، فالرجل فيها لديه امتيازات محرم على المرأة الحصول عليها، فهو قادر على الانطلاق في العالم بخطى ثابته وواثقة ولكن بعد أن يقمع المرأة ويحبسها في مجتمعها الصغير المتمثل في منزل والأسرة، وكل ذلك سببه الهيمنة الاجتماعية التي تفرض وجود الهيمنة الذكورية في المجتمع كصورة للمجتمعات التي تفصل الإنسان إلى كيان مذكر له حقوق وحرية وكيان مؤنث له واجبات ومقموع.
ثم يطرح الكاتب "بيار بروديو" الأنشطة الملاحظة في ظل الهيمنة الذكورية في الممارسات الحياتية (إن الاستعمالات العامة والنشطة للجزء العلوي والذكوري للجسد- جابه، واجه، قابل، نظر في الوجه والعيون، تكلم أمام الملأ- هي حكر على الرجال، أما المرأة في القبائل التي تتنحى عن الأماكن العامة، فإنه يتوجب عليها بمعنى ما أن تتخلى عن أن تأتي استعمالاً عمومياً لنظرها "إنها تمشي بين العامة وعيونها مغموضة إلى قدميها" ولكلامها "فالكلمة الوحيدة التي تناسبها هي "لا أعرف" وهي نقيضة للكلام الرجولي الذي هو تأكيد حاسم وقاطع، وفي الوقت ذاته متفكر وموزون) وأضيف إلى ذلك إلى أن الخنوع الذي تختزله المرأة في ذاتها بسبب النظرة التحليلية والنفسية والبيولوجية والتاريخية سبب لنسف أية محاولة للتفرد ككيان قادر على التميز وكل ذلك مرده إلى البنية الثقافية التي تمارسها الهيمنة الذكورية التي قسمتها بالتسلط كتعبير عن القوة الذكورية مع المرأة، وتصبح العقول معطوبة حين يكون الشرف في الأعضاء الجسدية لدى الذكر والأنثى، التي كونتها الاختلافات الاجتماعية لدى هذه المجتمعات ذات الهيمنة الذكورية.
من الملاحظ كذلك لدى المجتمعات ذات الهيمنة الذكورية أن هناك ضغوطا تمارس على الأسرة التي يكون معيلها المعنوي والمادي امرأة، فهي تخضع من قبل المجتمع إلى التشكيك بفضائلها وأخلاقياتها، فيصبح كل عمل تقوم به تلك الأسرة في موضع المجهر الذكوري، الذي لا يعترف بقدرات المرأة على تنشئة أسرة لوحدها، فهذه الهيمنة الذكورية تخضع الجسد وليس الفكر للمساءلة، وللأسف فأن كثيرا من النساء تفرض على نفسها تلك الهيمنة، على سبيل المثال في الملابس، فهي تفرض على جميع النساء في المجتمع الالتزام بزي معين تجبر الحركة على التثاقل والمشي ببطء تعزيزا لفكرة ضعف بنيتها، بالإضافة إلى ذلك فإن المرأة تهيمن على ذاتها ثقافة الهيمنة الذكورية عن طريق البحث عن رجل يعزز بداخلها هذه الثقافة كعادة توارثتها من البيئة التي تربت فيها كنوع من الخضوع الإرادي ومتعمد لأثر تلك الثقافة، كما أن النساء بسبب السلطة الرمزية التي تمارسها الهيمنة الذكورية بدواخلهن يخترن تبني ممارسات إقصاء أنفسهن عن الساحة العامة خوفاً من التجربة المرعبة للاقتراب من الفضاء الذكوري، نتيجة للآثار السلبية الثابتة التي مارسها النظام الذكوري على جسدها (إن العنف الجسدي لا يتحقق إلا من خلال فعل معرفة وجهل عملي يمارس من جانب الوعي والإرادة، ويمنح "سلطته المنومة" إلى كل تظاهراته وإيعازاته وإيحاءاته وإغراءاته وتهديداته ومآخذه وأوامر دعوته الانضباط، لكن علاقة هيمنة، التي لا تعمل إلا من خلال تواطؤ الاستعدادات، تتبع بعمق، لأجل تأبيدها أو تحويلها، بتأبيد أو تحول البنى، والتي كانت تلك الاستعدادات نتاجاً لها، وبشكل خاص لبنية سوق المتاع الرمزي والذي يقضي قانونه الجوهري أن يعامل النساء كأشياء تتداول من أسفل إلى فوق" (بيار بورديو) فالنساء بالنسبة لـ "بورديو" شريكات في إنتاج الهيمنة الذكورية و المحافظة عليها و كذا إعادة إنتاجها. فهن يستدمجن بطريقة غير واعية و من خلال التنشئة الاجتماعية هذه الهيمنة.
وبالرغم من أن الهيمنة الذكورية لم تعد تفرض نفسها كما في السابق بسبب حجم الحركة النسوية التي تحاول الخروج من تلك الهيمنة وتسلط الضوء إلى إرادة المرأة الحرة في المجتمع - خاصة في ظل الحركة الإعلامية التي تبرز جميع الشرائح المجتمعية في العالم- ولكن تبرز تحركات تدعو إلى فرض الهيمنة الذكورية من جديد وبالقوة، رغبة بالعودة إلى الوراء، تلك الرغبة تنطلق من رؤى لجماعة لا يستطيعوا التكيف مع الحداثة ومع المستقبل، ومع أن رؤى تلك الجماعة التي تدعي رغبتها للعودة إلى عصور تاريخية سابقة ولكن جميع مبادئهم تخضع لقوانينهم المستحدثة وفق انغلاق أدمغتهم، فهم يخضعون المجتمع لمعايرهم في نموذج المرأة الخاضعة لهم، فتؤدي إلى صراعات اجتماعية تبرز صورة الهيمنة الذكورية.

للحيلولة دون تسلط الهيمنة الذكورية على أوضاع المرأة والمجتمع، نحن بحاجة إلى حركة ثقافية قادرة وبقوة على تفكيك التعصبات القبلية التي تؤثر في وضع المرأة الفكري, تلك الهيمنة الذكورية التي تتسيد التعصبات والصراعات الاجتماعية وتتحكم بوضع المرأة في المجتمع وتقصيها عن دورها الفعلي، فنبرة التهديد والوعيد لفرض القمع والهيمنة لن تجدي نفعاً في ظل الإدراك والوعي، وما نحن بحاجة إليه هو أن تنزع المرأة وهم الهيمنة التي يفرضها عليها المجتمع.

نشرت بجريدة الرؤية بتاريخ 8/يوليو/2013م

الثلاثاء، 2 يوليو 2013

ثلاثية القمع.. الهيمنة والتسلط والوصاية

تميزت المشاهد التاريخية بكثرة ظهور الجماعات التي لها القدرة التأثيرية التسلطية على الافراد، لأنها تقوم على اساس الاعتراف من قبل الافراد بأحقية وحرية تلك الجماعات في التأثير عليهم وعلى قدرتهم وحريتهم، كنوع من الطاعة الواجب الإذعان والامتثال لها، متمثلة بأحقية تلك الجماعة ليس فقط في إصدار الأوامر وإنما في التحكم بمشاعر وميول ورغبات وعادات أفراد المجتمع، كما أنها تنسف إرادة الانسان الحرة وقدراته عن طريق القوة المكانية التي صُرح لها من قبل الجميع بالسيطرة الشرعية على عقول جميع الأفراد وبالتالي الانقياد لها، وكل ذلك يرجع إلى الرغبة بالانتماء للاقوى، تلك هي الفكرة التي تسيطر على الفرد حتى وإن كانت تعني عدم التفكير أو تعطيل إرادته في البحث عن البراهين والأدلة التي قد تنتقد تلك السلطة وتزعزع مصداقيتها، فالفرد في مثل هذه البيئة تترسخ لديه فكرة عدم جدوى التفكير الجدي بالخروج من سيطرة هذه الجماعات والتي تحولت مع مرور الزمن على شكل تشكيلات فكرية غير قابلة لنقاش ومورثات وعادات عقائدية جامدة من الصعب تغييرها، وبالتالي ينجر الأغلبية إلى الخضوع إلى تلك الجماعة لكون الإنسان ذا ميول اجتماعية بطبعه.

وإن كانت تلك السلطة قائمة في البدء على أساس الرضا والاقتناع من أجل صيانة مصلحة الجميع ولكنها أخذت منحنى آخر بالإرغام والأكرة والاستعباد من خلال حمل الفرد على التنفيذ الأوامر والتقيد بالتوجيهات، وبالتالي تصبح تلك السلطة في وضع الهيمنة والتسلط وتسقط المصلحة العامة لتصبح تسيد وقمع الأفراد من أجل مصلحة تلك الجماعة التي قد تخفي أهدافها ومصالحة الشخصية لأجل السيطرة على أولئك الأفراد.

الهيمنة وهي سيادة وسيطرة اطار معين وأفكار محددة على أسلوب وحياة جميع الافراد من قبل قوة جماعية تدعو إلى نشر المبادى التي تتبناها، تلك الهيمنة تؤثر على الثقافة فبالرغم من اتساع أفاق الثقافة العلمية والمعرفية في شتى المجالات حول العالم نجد أن تلك الهيمنة تفرض سيطرتها على ثقافة المجتمع فتحيله إلى قطعة صخرية لا تتغير، فهي تدعو إلى ثقافة موغلة في الماضي متمسكة بسطحية الاحداث ومنغلقة بجمود حول ثقافتها، تمنع الجميع من أن يقترب من تلك المبادئ التي خول لها وضع بنود شرعية سلطوية من ضمنها عدم النقد أو المساس بمضمونها أو بأسيادها، وكل هذا يرجع إلى كون أن تلك الهيمنة تحارب أية أفكار تزعزع كيان ما زرعته خلال سنوات طويلة في أذهان وعقلية أفرادها، فتتهم كل من يحاول كشف تلك الهيمنة " بالنقد أو الطرح والحوار" بالتخريب أو التكفير، وذلك يتضح جلياً فيما يحدث الآن في بعض المجتمعات العربية من محاولة ترسيخ تلك الهيمنة بالقوة والتسلط والسيطرة التي أدت إلى نشوء صراعات حادة بين الأفراد مشحونة بالعداء والتشنج فتنتشر جرائم القتل والارهاب.

ثقافة التسلط تضع المجتمع في قالب معين فهي تحدد وتتحكم بكل جزئية فيه وصولا إلى الاحلام والافكار، عن طريق تحديد الثقافة التي يجب أن تنشر بالمجتمع، كما أنها تخضع الثقافة الفكرية والمعرفية إلى مقياس الفتاوي الذي يحدد قابليته للنشر أو عدمه حسب الشرع، كما أنها تخضع أية ثقافة في المجتمع لتلك الهيمنة وإلا اعتبرت معادية وخائنة ووجب أقتلاعها، فبعد ثقافة الهيمنة التي شرع لها المجتمع الاحقية تأتي الوصاية الجماعية التي تجهض أية حركة لنهضة فكرية مختلفة عن أسس تلك الهيمنة، والوصاية تبدأ دائما من الأسرة التي هي عبارة عن المجتمع الصغير بداخل المجتمع، وهي الصورة الاساسية لشكل المجتمع، فحين تتبع الأسرة أسلوب الوصاية والتسلط والرفض الدائم لتحقيق رغبات أبنائها واتخاذ أسلوب السيطرة على الابناء في كل شؤون حياتهم، في تعيين الاصدقاء الواجب التعرف عليهم، وتحديد نوعية وشكل الملابس ولونها، ومنعهم من الحوار، وزعزعة الثقة بأنفسهم، واجبارهم على ممارسة العادات التي توارثوها من السابقين، بالاضافة إلى تحديد نوع المعارف والقراءات والثقافات الواجب التعرف عليها، كل هذا يؤدي إلى تكوين طفل ضعيف الشخصية سلبياً دائما، متردد وغير واثق من نفسه، وأي محاولة لتحرره من تلك القيود سيستخدم الاباء أسلوب الوصاية والتسلط المتمثلة في القسوة بالضرب والتعدي الجسدي على الابناء، مما يؤدي إلى كسر أية محاولة اصلاح في شخصية الأبناء وأفكارهم، فإذا كانت مثل هذه الأسر هي الصورة الأساسية لشكل المجتمع فمن الطبيعي أن تنتشر تلك الجماعات التي تفرض الوصاية والتسلط والهيمنة على بقية افراد المجتمع.

أذكر على سبيل المثال حول ثقافة التسلط والسيطرة ما صورته مشاهد واحداث فيلم The Village الذي صور تأثير تلك الهيمنة الاجتماعية على أسلوب حياة أفراد أنعزلوا عن العالم في قرية، خوفاً من جرائم القتل والسرقة التي تحدث في المجتمعات، وبالرغم من ذلك الانعزال الذي حاول فيه أصحاب الفكرة عزل بقية الافراد واخفاء آي اثر للعالم الخارجي عن طريق نشر مخاوف بوجود وحوش قد تقضي على الافراد في حالة محاولة أحد الابناء الهروب من القرية، ولكن تتحول أمنياتهم إلى التلاشيء مع ظهور جريمة قتل بالقرية، وبالتالي محاولة العزل التي ابتدأت كإنعزال وانغلاق متفق عليه بالتراضي بين اصدقاء اصبحت عزل اجباري بزيادة عدد أفراد القرية نتيجة التوالد وبالتالي ظهور الاختلافات الفكرية التي مهما حاول الانعزال ثنيها عن التوسع والظهور ولكن لا سبيل لقمعها سوى باستمرار ممارسة الكذب والتهديد والتخويف وذلك ما حدث في نهاية أحداث الفيلم.

وهم الاستيلاء على قدرة الانسان الفكرية وحرية الارادة لا تنتهي إلا عن طريق الوعي، ولكن التعصب لأجل ثقافة السيطرة والتسلط والجمود يزيد من سيادة منطق العنف والقوة واخفاء الابعاد الخفية لمثل هذه الثقافة.

نشرت في جريدة الرؤية بتاريخ 1/يوليو/2013م