أقوال

إن الأمة المستعبدة بروحها وعقليتها لا تستطيع أن تكون حرة بملابسها وعاداتها .(جبران خليل جبران) _______ الصمت ينطق، والخوف ينتصر على نفسه، والجدار السميك يصبح أشلاء متهاوية على الأرض. (عقل العويط)

الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

الصمت الممنهج



الصمت هو عدم وجود صوت أو تواصل لفظي مسموع، كردة فعل يصدرها الإنسان لعدم الرغبة بالحديث بسبب الغضب أو عدم الاهتمام أو الاكتراث لشيء ما، وقد تكون كذلك لأسباب صحية مختلفة، كما للصمت أثر على الثقافة الإنسانية منذ بدء التاريخ، وقبل الكلام، حين كانت أول اشارة للصمت بوضع الأصبع على الفم والشفتين مطبقة كمطالبة للصمت وعدم الكلام أو من اجل الإنصات، وقد ورد في التاريخ كذلك أحداث أجبر فيها المتمرد على الصمت حينما كانت تعاقبه السلطات العليا في المجتمع بخياطة فمه اذا ما ارتفع صوته، بالإضافة فأن الصمت هو أهم أداة للمتأمل في الديانات والثقافات المختلفة.
والصمت أسلوب تعبيري للرغبة بالاستماع والإنصات حين تتلقى الأذن الموسيقى أو الحوار، وكذلك حين تتلقى المعلومات ( أثناء مراحل الدراسة)، أو من أجل العزلة والتفكير وتحرر الأفكار من التأثيرات الخارجية التي قد يحدثها الصوت، كما هناك الصمت التذكاري الجماعي الذي يكون لمدة زمنية محددة " دقيقة صمت مثلا" لحادثة مأساوية خلفت ضحايا، ولتكريمهم تعلن الجماعة الفترة الزمنية للصمت احتراما لأولئك الضحايا.
وهناك الصمت كتعبير فني، ومن أبرز الفنون الصامتة " التمثيل الايمائي" الذي يبرز فيها الفنان مقدرته على الاداء الحركي بدون الصوت، مثال عليه ( الكوميديا الصامتة ) الذي برع فيها الفنان العالمي شارلي شابلن، كما أن هناك من الفنانين من يعرض الفن الصامت في الشوارع أو المسارح لإظهار مقدرتهم الابداعية في إبراز القصة  بالحركات الجسدية والامتناع عن اصدار الصوت، وبالإمكان اعتبار فن الرسم من ضمن الفنون الصامتة التي تعبر عن ما بداخل الإنسان من عواطف أو أفكار بدون صوت.
وهناك من اعتبر الصمت فلسفة، حيث وضع الصمت في خانة الحكمة، كدعوة للجميع إلى التفكير والتأمل قبل الفعل أو الكلام، فالصمت هنا يجب أن يتبعه إدراك ووعي من أجل إيجاد حلول للمواقف الصعبة أو ردة فعل لما قد يحدث من قبل الآخرين من تهور أو شجار، وكذلك يعتبر الصمت نوعاً من أنواع العتاب والعقاب، حين لا يكون للحوار فائدة أو مجال أو حل، أو من أجل لفت الآخرين لوجوده في بعض الأحيان، فالصمت لغة حين لا يكون جدوى من الكلام.
وفي كل مجتمع ثقافة معينة تظهر مقدار حجم استيعاب شعوبها للمعارف وإدراك منطلقتها وأسبابها، ولثقافة الصمت أسباب مختلفة بحسب حاجة المجتمع إليها، وقد تصبح عادة تؤدي في الغالب إلى انتشار الفساد حين يكون الصمت متبوعاً بعماء الفكر والعين، وبالتالي انكسار الفرد وتهاونه عن البحث عن حقوقه ومصداقية الخبر، ففي الوقت الحالي ما عاد الصمت مجدي في سياسات  الشعوب والجماهير، فحين يصمت الشعب تزداد الانتهاكات التي تفقد الحقوق والحريات وتظلل الحقائق، وتصمت الثقافة عن اداء دورها المخول لكشف تلك الانتهاكات وتبتعد عن الموضوعية في كشف الاخطاء والفساد، ويغوص المجتمع في بحر من عدم الشفافية الذي سببه الصمت عن معرفة ما يدور من مجريات الأمور حوله، وكلما ازداد صمت الشعب وتكاسل عن الرغبة بمعرفة الحقائق كلما انتشر وازداد في المجتمع الكذب والإشاعات التي تؤدي إلى زعزعة أمان المواطن والوطن، كما يزداد في هكذا مجتمع السرقات والتجاوزات والاعتداءات حين يكون الصمت حجة، فلا يكون لدى الافراد الرغبة بمعرفة الاسباب والمسببات التي أدت إلى مثل هذه الانتهاكات وهذا الفساد بين أروقة السلطة الحاكمة.
وصمت الشارع العربي علامة الإنسان المقهور المخروس عن حقوقه، المعطل عن تنمية قدراته الوظيفية، الجائع إنسانياً، المتربي على الصمت وعدم الكلام أو النقاش أو الانتقاد في حضور الأكبر منه مكانيا وعمريا، فصمت المواطن عن حقوقه يؤدي إلى شيوع حالات انتهاك القانون وضياع الحقوق من قبل الرؤوس الكبيرة في المجتمع، حين تضيع الشكوى في حنجرة الضعيف منها، كما أن هذا الصمت القمعي يهدف إلى تخدير الفكر وصولاً إلى تسليم للمتسلط بسلطته، باعتبارها أمراً خارج التساؤل والنقاش، وبالتالي قد تظهر جماعة متسلطة تستفيد من الصمت القمعي الذي اجبر الناس عليه في المجتمع، باحتكارهم حق تأويل النصوص الدينية ويتحكمون بسلوك العباد تحليلاً وتحريماً، ويكون الإنسان في هذه الحالة في مأزق وجودي حيث لا يبق له سوى الاستسلام والانكسار والانحسار بصمت في المجتمع.
وكل ما نحتاج إليه هو تنمية الفكر الباحث عن مواطن الخلل في المجتمع، وذلك عبر المؤسسات الاعلامية التي هي الطريقة التي توصل صوت المواطن وليست أن تستفرد بكونها صوت المواطن، ومعاملة حقوق المواطن بكونها مواطنة وليست من كونها قبلية أو مذهبية، ونشر الوعي الحقوقي القانوني للمواطن، والبحث عن الشفافية في المؤسسات الحكومية، والمسائلة عنها، وكي نعيد التوازن في المجتمع وكسر الصمت لدى أفراده يجب تعزيز الثقة والمطالبة بالتنمية المشتركة بين الجميع، وتفعيل الممارسات الديمقراطية الفعلية في المؤسسات الحكومية، وحق النقد والتعبير في الصحافة والكتابة، كما من الجيد وجود لجان تحاسب التجاوزات والاعتداءات التي تطول الوطن والمواطن، ما نحتاج إليه فعلاً ثورة ضد الصمت الممنهج وفتح باب الحوار والحديث مع الجميع بدون تميز، وتنمية واستيعاب جميع الثقافات في المجتمع.


 نشر بجريدة الرؤية بتاريخ 26/ ديسمبر/2012

الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

سجين الرأي



السجون وسيلة استخدمتها البشرية منذ الأف السنين لاعتقال وإزالة الحرية الشخصية من الناس المسجونين، وقد تستمر لفترة زمنية معينة أو مؤبد ، أو حتى موعد الإعدام، وقد تختلف الاسباب الذي يزج فيها الفرد إلى السجن، من افعال اجرامية ( سرقة ، قتل ، ارهاب ، اغتصاب. الخ) إلى اسباب سياسية ( اسرى حرب، معارضين ، خونة. الخ )، كما أن الحضارات القديمة كانت تستخدم السجين كالعبيد  ليبنوا المباني، أو مثل الحضارة الرومانية التي استخدمت المساجين في حلبة المصارعة بعد تدريبهم على القتال مع بعضهم البعض أو مع الحيوانات المفترسة.
وفي عام 1215 اصدر الملك (ماغنا كارتا)  قانونا ينص على أنه لا يمكن سجن أي إنسان دون محاكمة، بعد أن كان في السابق يتم زج الافراد في السجن بدون حتى توجيه تهمة أو محاكمه، وقد ساهم هذا القانون في صناعة وصياغة التشريعات القانونية، من البراءة إلى مدة الحبس أو الاعدام، فأصبحت مدد السجون تتزايد بتزايد الجرائم وفي بعض الاحيان وفقا للتعسف والقمع التي تمارسه بعض الحكومات القمعية ضد افرادها، وقد تزداد القسوة بداخل اروقتها بتزايد الامراض النفسية التي تتملك سجانها.
المتتبع لتاريخ السجون يجد أن البشرية قادرة على أن تضع قوانين تزج ايا كان في السجن إن كانت تملك سلطة تخولها التحكم في مصائر الناس، فالسجن وإن كان وسيلة قانونية ومن أجل فرض النظام، وعقاب كل من خولت له نفسه التعدي على الآخرين، ولكنه قد يقع احيانا في معضلة اهواء السلطة الحاكمة، فيكون القانون اعمى عن احداث القضية واسبابها، فتصدرُ أحكام تعسفية المقصد منها القضاء وإقصاء كل من يحاول زحزحة تلك السلطة عن الكرسي، فالتاريخ كشف عن ممارسات وحشية تتطول كل من كان له رأي افصح عنه كحرية التعبير عن ما يجول في فكره من رؤية أو رأي يود تقديمه للناس حول وضع الوطن أو وضع الشعب، فتقطع لسانه أن تحدث وتقطع أصابعه إن كتب منشور وغالبا ما يعذب حتى الموت.
حرية الرأي هي حرية التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام والكتابة والاعمال الفنية، بدون قيود، بشرط أن تمثل في مضمونها الأفكار والآراء الإنسانية، وهي حق إنساني يحتاجه الإنسان من أجل تنمية أفكاره ومجتمعه، وحرية الرأي اسهمت عبر التاريخ في تطور الحضارة الإنسانية منذ القدم، وهي تكفل المساواة بين الجميع بدون تميز، ويعتبر الفيلسوف جون ستيورات من اوائل المنادين بحرية التعبير حين قال ( إذا كان كل البشر يمتلكون رأياً واحداً وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفاً فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل البشر إذا توفرت له القوة)، وقصد الفيلسوف ستيورات هنا أن قمع حرية الرأي هي أسلوب يستخدمه الطغاة، بالإضافة لا يجب أن تكون حرية الرأي يقصد منها إلحاق الضرر والأذى والتعدي على حريات الغير.
الأحداث الماضية التي تداولتها الصحف العربية والمحلية والمواقع الالكترونية حول الظن أن حرية الرأي ثورة وليست حق لكل فرد في الوطن، واعتبارها احداث تم استيرادها من المجتمعات العالمية هي اجحاف في قدرات الافراد في المجتمع حول حرياتهم، فأدوات حرية الرأي تطورت بالتطور التكنولوجي الذي يعم كل المعارف العملية والعلمية في المجتمع، وسهولة التواصل بين الافراد عن طريق التقنية والمؤسسات الاعلامية (الصحافة) ساهمت على انتشارها وتنميتها، ولكن للأسف تملكت بعض الجماعات السلطوية الرعب والخوف من تلك الحرية حين وضعت للرأي سجن، فأصبح هناك سجناء رأي في أغلب الدول العربية، وهي تسمية أطلقت على من يقول رأياً فيتعرض للاعتقال والسجن، وغضوا الطرف عن رؤية ابعاد تلك الرؤية ومصلحتها للمجتمع والوطن وكحق إنساني شرعتها الحضارات الإنسانية والمجتمعات المدنية، فأي وطن ذاك الذي يخشى سماء الحرية في مجتمعه؟ واي وطن ذاك الذي تختلط لديه مصلحة افراده ويضيع في مفردات يختلقها كالأعور الذي يخشى أن يكتشف أن عينه الأخرى تبصر فيضع عليها خرقه سوداء، فأولئك الشباب الذي وقفوا وقفة سلمية من أجل حرية الرأي لم يكن يقصدوا الاخلال بالأمن بل وثقوا بأن الوطن قادر على الإنصات إليهم، ووقفوا تحت أشعة الشمس وفي العلن، فحتى متى سوء الفهم الحاصل بين حرية الرأي والتشريعات القانونية الغامضة؟ أن استمر الوضع على ما هو عليه سيتجمد الفكر وسيكون سجين بؤرة قد تؤدي إلى هلاكه.
الأمن هو وجود حرية الرأي وليس سجناء الرأي، والوطن في أشد الحاجة الآن للإنصات للجميع واستيعاب اراء الشباب التي ترغب رؤية وطنها من أفضل الأوطان، والمتمثل بكون الحرية هي أهم منطلقاتها.


نشر في جريدة الرؤية بتاريخ 19/ ديسمبر/2012

الأربعاء، 12 ديسمبر 2012

المغيب ( المغصوب )



تتداول القصص الأسطورية العمانية شخصية ( المغيب - المغصوب )، وبحسب الروايات فإن المغيب هو إنسان مسحور يظن أهله أنه فارق الحياة ويتم دفنه، ولكنه يظهر إليهم في ساعات الليل المتأخرة، يتمشى في البيت وبين الغرف وفي السيوح والجبال، وقد تستمر رؤيته من قبل من يعرفوه  لسنوات طويلة، وبحسب الروايات كذلك فإن ذاك الإنسان المغيب قد تم سحره من أحد شيوخ السحرة الكبار، لأسباب قد تكون شخصية أو مادية، ولا يستطيع أحد مساعدته أو إرجاعه للحياة.  
والمدهش في اسطورة قصة المغيب حين يتم سحره فأنه يتنقل في المكان بدون عقل أو إدراك لمن حوله، فبحسب ما يتداوله الناس فأن المغيب تارة يكون ممتطياً حماراً ويتنقل في حارات البلدة، وتارة أخرى يكون هائما على وجه بدون وعي، بالإضافة إلى أن البعض اضاف مسمى ( مأكول ) لذلك المغيب، أي أن عقله وروحه قد أكلت من قبل ساحر.
 التاريخ ذكر المغيب ( المغصوب ) في مجتمعات مختلفة من العالم وعلى مرور الزمن حتى الوقت الحالي، كأفريقيا وشرق آسيا، وبأسماء مختلفة مثال عليه ( الزومبي/ ومصاصي الدماء/ والاشباح ) الأموات الاحياء، وهناك الكثير من القبور  وضعت مع الجثة أدوات يعتقد فيه الناس أن الإنسان ربما سيرجع للحياة وسيحتاجها في حينها مثال عليه مقابر الفراعنة، وهناك مقالات علمية ونفسية عديدة حاولت تحليل الأسباب التي تجعل الإنسان يؤمن بعودته للحياة بتلك الطريقة، كما أن هناك افلام وثائقية توضح وتشرح تاريخ ومنشأ مثل هذه المعتقدات على سبيل المثال: Zombies: A Living History (ZOMBIE DOCUMENTARY!).
يؤمن البعض بأسطورة المغيب ( المغصوب)، لعدم مقدرته على استيعاب مفهوم الموت على أنها نهاية الإنسان، فيعتقد بالسحر والشعوذة التي تستطيع أن تجعل الإنسان يعود للحياة، وكانت ديانة الفودو المنتشرة في افريقيا تؤمن بالأرواح، ومقدرتها على التأثير في الناس وضرهم، وربما تكون هذه المعتقدات هي من أوصلت خرافة المغيب إلى المجتمع العماني، بسبب التواصل التاريخي السابق بين عمان وافريقيا، مما أدى إلى استيراد معتقداتهم مع بقية اشكال التواصل التي كانت بينهم.
فَقدُ إنسان عزيز وموته يجعل الإنسان في حالة عاطفية شديدةً، تؤدي به إلى حالة من اللاوعي وتتأثر طريقة تفكيره فيخلق الأوهام والخيالات التي تجعله دائم البحث عن طيف يوصله إلى من فقده بأية وسيلة وطريقة، وخوفه الداخلي من الموت وعدم مقدرته على استيعاب تلك المرحلة الضرورية للحياة تجعله يصطدم بالأوهام والشعوذة والقصص الخرافية التي تصور الحياة بعد الموت، وإبعاد المنطق والعقلانية في مثل هذه الحالة، فالموت ظاهرة طبيعية ولكن الرعب الذي يتملك الإنسان من حالة جسده بعدها ( التحلل والتلاشي في الارض) يجعله يفصل تلك المرحلة الطبيعية ويتمسك بأي وهم وخرافة تخالف العقل وتجعله يستمر في الحياة، وبالتالي خلقت تداعيات شديدة تطورت على مرور الزمن في جميع أدوات حياته، فذلك الخوف من الموت وخلق الاساطير والاوهام عليها جعله مغيبا فعليا عن الوعي لما حوله، فالوهم والخرافة جعله غير مسؤول عن افعاله، بل خلق له قوى تسيطر عليه وهي السبب لما يحدث له من مشاكل وصعوبات حين لا يستطيع ادراك واستيعاب ما حوله، فحين يتطور الإنسان من بداية المرحلة الطفولة فسيولوجيا على الخيال والاوهام والخوف تتجمد مقدرته الاستيعابية على استيعاب المنطق والعقل والتحليل لمدركات الامور ويفقد الموضوعية في مسار حياته، فيهرب من أية مشكلة قد تواجه بتصورات وهمية تجعل من حوله يتعاطف معه.
يجب أن يكون الإنسان مدركا ومسؤولا عن افعاله وأفكاره، وفكرة المغيب ( المغصوب) وغيرها من خرافات تفقد الوعي العلمي والمنطقي لفكرة الموت أو الامراض أو الافعال، التي هي جدلية ضرورية لاستمرار الحياة، كما أن فكرة المغيب تؤدي إلى أن تسيطر على الفرد فكرة وجود قوى خرافية قادرة على إلحاق الأذى به، فتهدده تلك الفكرة في كل افعاله وأفكاره، وربما تستفيد منها جماعة السحر والشعوذة للسيطرة عليه واستنزاف وقته وماله وفكرة، فيصبح تابعا لهذه الجماعة ينفذ أوامرها ويروج لها، كما أن تلك الجماعة تتبنى قصصا خرافية بعد أن فقد الإنسان مقدرته على الوعي وإدراك الأمور والإيمان بمسؤوليته التامة عن كل أفعاله.
وللأسف فأن تداعيات الإيمان بهذه الخرافات أثرت بتفكير الفرد في المجتمع ومقدرته على تحمل مسؤولية أعماله كردة فعل انعكاسيه على الإيمان بتلك المعتقدات، فأصبح كالمغيب الفعلي عن أدراك أحقيته في أثبات حقوقه وواجباته، وترك أموره تسيرها جماعات وهمية بعيدة كل البعد عن المنطق والعقلانية  لمجريات الحياة.

نشر في جريدة الرؤية بتاريخ 12/ ديسمبر /2012

الأربعاء، 5 ديسمبر 2012

الخوف قبر الإبداع



ترسخ التربية في أغلب المجتمعات ثقافة الخوف لدى الفرد في المجتمع، وتخضع كل أفعاله وتصرفاته وأفكاره في مختبر الخوف، الذي يحلل وينقي ويزيل اي آثر من الممكن أن يظهر لدي الفرد المتميز والمنفرد بالفكرة والفعل، فيخشى ذاك المجتمع الذي سيطرت فيه ثقافة الخوف- من الاساطير والاوهام والخرافات والعادات والتقاليد- من علامات الاختلاف المتميز والحديث لدى الافراد، فيحاول فرض وصايته بإرجاع ذلك الفرد إلى عقيدة الخوف، وكما نعلم أن عكس كلمة الخوف هي الأمان والاستقرار الذي يحتاجه كل مجتمع يرغب بالازدهار الفكري والحضاري، ولكن في حالة وجود ذلك الخوف فأن أية محاولة لمعالجة وكسر الخوف المنتشر في المجتمع تخضع لقوانين ثقافة الخوف، التي تمنع الحريات وتحد من التفكير والتطور الإنساني.
الخوف يضع التفكير في حالة جمود، حين تكون الخيارات المتاحة أمامه للإبداع محدده وخاضعة لشروط تحارب أي اختلاف عن القديم وتمنع التقدم في العلم، فهناك جماعات في المجتمع مهنتها حراسة الخوف ووضع أفكار وأفعال الافراد في غربال مقاييسهم الفكرية التي تمنع وتقتل أي فكرة تخالف رغبتهم وثقافة خوفهم وجمود فكرهم المتبع للعادات والتقاليد والاوهام، كما أن تلك الجماعات تفرض على الأفراد اتباع ثقافة الخوف والاقتداء بها عبر الأجيال، وبالتالي تتأثر لدى الفرد (الراغب بالإبداع واستحداث الفكر والفعل الإنساني والحضاري) الذات المبدعة والمنفتحة للأفكار مما يؤدي إلى جمود الإنتاج الفعلي والعملي للتطور والتجديد، ومن ثم يؤدي بالمجتمع إلى بناء جدار يمنع من استقبال اية فكرة حداثية تهدم ثقافة الخوف لديه.
غالبا ما يؤدي الخوف بالإنسان إلى منع الفكر من التفكير السليم والعقلاني والعلمي لمجريات الأمور من حوله، فيحبط لديه أية محاولة للاستنتاج والتحليل والاكتشاف وايجاد الحلول للمشاكل التي قد يتعرض لها، وبالتالي يصبح هذا الإنسان التي تساوره الشكوك والمخاوف عرضه للرهبة والقلق والخوف من اي فعل يرغب بالإقدام عليه، وكل ذلك صنيعة نفسه وذاته التي زرع فيها الخوف وجعل الخوف كقيد يتحكم بكل فكره أو عمل يقوم به في مشوار حياته، وكل ما يحتاج إليه كعلاج لذلك التفكير السلبي هو إزالة تلك الجذور من داخل فكره، وبناء فكر سليم وصحي وإيجابي بعيد عن التفكير غير المنطقي والسلبي لمجريات الأمور من حوله، فالرهبة والخوف تخضع الفكر البشري لطاقة سلبية فوق الاحتمال وقد تؤدي في أحيانا كثيرة إلى أفعال وتصرفات أشنع من الحالة التي تخضعه فيه ذلك الشعور بالخوف، والشعور بالخوف يمنع التدرج التفكيري للحلول، حين تكون أول خطوة محفوفة ومنتجة للمخاوف.
الفرد الذي تكون لديه عقدة الخوف تنتابه الكثير من الأمراض العضوية والنفسية التي سببها الرئيسي هو الخوف، فيتعرض جسده إلى مشاكل صحية عديدة تنتابه بسبب شعوره بالخوف من شيء ما ( فكره كانت أو فعل) ، وهناك الكثير من الأمراض في المجتمع الذي تزداد بسبب عقدة الخوف مثل امراض القلب وضغط الدم والامراض النفسية كالقلق والتوتر والكآبة والانطوائية وغيرها، وكل هذه الأمراض ترجع مسبباتها غالبا إلى أحساس وشعور المريض بالخوف وبالتالي تؤدي إلى تغيرات فسيولوجية بجسده تؤثر في طريقة تعامله مع ذاك الحدث، ولذلك فأن أفضل علاج لمثل هذه الحالات هي أن يخضع المريض في البدء إلى معرفة أسباب مخاوفه، ، فالخبراء النفسيون يرجعون على أن معظم هذه المخاوف ومصادر القلق هي من خيال الإنسان ومن بنات أفكاره أكثر مما هي واقعية، مبينين في الوقت نفسه أنه يجب عليه مواجهتها للتغلب عليها. 
وهناك جزئية مهمة في تأثير ثقافة الخوف لدى المجتمعات العربية إلى نظرتها للمرأة، فغالبا ما تخضع المرأة في هكذا مجتمعات متأثرة بثقافة الخوف إلى ضغوط نفسية تؤثر في استيعاب قدراتها ومداركها الإنسانية فتتأثر لديها القدرة في صناعة القرار، بسبب ترسيخ المفهوم المنتقص لدورها الإنساني، فيكون المجتمع في الغالب كالعدسة المكبرة لأفعال النساء خوفاً منها وليس عليها، فكل فعل أو فكرة تقوم بها المرأة يخضع بصورة سريعة للتقنين والتقزيم وزرع بذور الخوف منه، بسبب ترسيخ مفهوم العادات والتقاليد التي تحد من قدراتها وتمنعها، فغالباً تنشأ المرأة منذ صغرها على الخوف من جسدها وفكرها، فجسدها خطيئة وفكرها شيطاني بحسب المورثات والمعتقدات التي تأخذ من العادات والتقاليد المقدسة في المجتمع ، مما يؤدي إلى تفكيرها السلبي في ذاتها من أن تكون مصدر الشرور، والخوف من أية بوادر تخالف تلك المعتقدات، بالتالي تقمع اية محاولة لإزالة اثر الخوف من ذاتها، فالعادات والتقاليد تربي المرأة منذ الصغر على كونها كائناً ضعيفاً ويجب أن تلتجئ دائما إلى الرجل وتستمد منه الأمن والأمان والحماية من كل الافكار والافعال التي قد تواجها بالمجتمع، وأنها دائما مغلوب على أمرها وغير قادرة على صناعة القرار أو الدفاع عن نفسها، فتشعر بالخوف من فكرة مواجهة اي جديد أو مجهول تلقاه، ويزداد لديها الشعور الدائم لخضوعها الدائم للمراقبة وفضح عيوبها وتكبير أخطائها كالعدسة المكبرة لكل عين حولها، كما أن الشعور بالخوف يزداد لدى الأمهات في ظل عدم مقدرتهن على استيعاب وإدراك المتغيرات في الحياة الاجتماعية والتكنولوجية في المجتمع، ويتأثر الابناء بذلك حين يظهر الهلع والخوف الدائم على الامهات، فتكثر من التوجيهات والتحذيرات، مما يعوق نموهم وتتعطل مسيرة حياتهم وتجاربهم المختلفة مع الآخرين، وكل ذلك بسبب التنشئة التي تتربى عليها المرأة منذ الصغر على ثقافة الخوف ويتأثر بذلك كل ما ومن حولها.

نشرت بجريدة الرؤية تاريخ/ 5/ ديسمبر/2012

مدخل إلى ثقافة الخوف (2)





متابعة للمقال السابق حول الدراسة التي نشرها الباحث الدكتور/ أحمد محمد عقلة الزبون، حول ثقافة الخوف وسيكولوجية الطفولة، نأتي إلى ذكر مثيرات ثقافة الخوف الطفولي، وبحسب الدراسة فأن أهم وأبرز المثيرات هي:
-    المثيرات الحسية والمقصود بها المثيرات التي تسبب الخوف عن طريق الحواس الخمس المعروفة، مثال عليه الخوف من الضوضاء والأصوات العالية، والخوف من الظلام لارتباطه بالمجهول فيخاف الاصطدام بشيء أو أن يصاب بشيء قد يعترضه، مما قد يؤدي إلى خوف دائما لارتباطه بذكريات مخيفة مثل قصص الجن والعفاريت واللصوص، والخوف من الحيوانات التي لم يألف الطفل وجودها من حوله في بيئته.
-    المثيرات غير الحسية والمقصود بها التي لا يمكن أدراك حقيقته كالخوف من الموت أو الخوف من العفاريت ونار جهنم، مثال عليه الخوف من القصص والأساطير الخرافية التي يكون بطل القصة فيه شبح أو جن فتكون تلك القصة وقود لمخاوف الطفل فإذا تحرك أي شيء من حوله أو سمع صوتاً غريباً فأول ما يتخيل إليه هو الشبح أو الجن جاء ليروعه ويؤذيه، والخوف من عالم الأرواح والسحر الذي يعتبر من أبرز العوامل المثيرة لثقافة الخوف الطفولي، فهو يشكل ذعراً ليس لهم فقط بل للكبار الذين تتملكهم عقيدة شائعة تقول إن استخدام السحر يمكن أن يؤدي إلى عدة أمور منها الحيلولة دون تحقيق أهداف المرء في الحياة وبلوغ مرحلة النجاح والتفوق.
-    المثيرات المدرسية والمقصود بها الخوف من الامتحان، قد يكون طبيعي ولكن قد يبلغ أشده حين تظهر مخاوف أضافية له كالخوف من التعرض للعقاب أو السخرية أن فشل في الامتحان، فهذه المثيرات تفقده الثقة بالنفس ومقدرته على وضعه بالامتحان.
-    المثيرات الصحية كالخوف من الإصابة بالمرض، ويعد من أقوى العوامل التي تقف وراء ثقافة الخوف الطفولي، فالطفل شديد الحساسية من خوفه بإصابة أحد أعضاء جسمه، فالطفل يرغب بمعرفة الأسباب التي أدت إلى إصابته بالمرض، فحين يرى رجلاً معوقاً يثير لديه التساؤلات حول أسباب إصابته ثم يبدأ بالتفكير إذا كان من الممكن إصابته بهذه الإصابة فتتحول حياته إلى هلع ورعب من أي مرض ويخشى أي عدوى، خصوصا حين لا يستطيع الأهل توصيل المعلومة الصحيحة لأسباب تلك الإصابة أو المرض أو قد يعتمد بعض الأهل أسلوب تخويف الطفل من تلك الإصابة أو المرض، وكذلك الخوف من الموت فإذا فوجئ الطفل بموت عزيز عليه وظهر على أحد أفراد الأسرة من الكبار علامات الخوف الشديد من الموت، تهتز مشاعر الطفل بالأمن والطمأنينة خصوصا لو كان المتوفى والده أو والدته، فذلك كفيل بجعله يخاف من العزلة، فالموت مظهر من مظاهر العزلة، والطفل يتألم من مظاهر العزلة التي يتصف بها الموت، وطقوس الحزن على الفقيد وكثرة البكاء وإظهار الآلام والعزاء لعدة أيام، فهذه المظاهر تجعل الطفل يتقمص حدوث الموت ويتوقعه ويخشاه.
-    المثيرات الأسرية كالخوف من الانفصال عن الأم، فهذا يعد تهديداً على سلامته، ورجوعها إليه مرتبط بعودة أمنه وطمأنينته، والانفصال المتكرر يحدث جرحاً بالغ في نفسيته، خاصة أن أعتمد أحد الوالدين كأسلوب تهديد الطفل بالانفصال عنه، فهذه التهديدات تسبب في الطفل شعوراً عن اعتقاده بأن والديه سيختفيان عنه يوماً ما.
كما ذكرت الدراسة طرق لمواجهة الخوف الطفولي، مثال عليه مشاهدة النماذج على الكيفية التي من الممكن على الطفل التعامل دون خوف مع المواقف التي تسبب له الخوف، عن طريق وضع نماذج وأمثلة تساعده على إدراك الموقف، بالإضافة إلى التدريب على مواجهة المخاوف التي تعرض لها الطفل على شكل ألعاب أو التمثيل للتعبير عن المشاعر والتحكم فيها، كما أن امتداح الطفل من قبل الكبار على مقدرته على تجاوز المخاوف يعتبر معزز من مقدرتهم على تجاوز مخاوفهم، واستعمال الخيال الايجابي كالقصص المشوقة أو الرحلات الممتعة يقضي على توتره ويزيل مخاوفه وتنمي لديه مقدرته على تحمل المشاكل والتغلب على المخاطر، كما إن مكافأة الطفل على السلوك الشجاع من الطرق الفعالة لمواجهة ثقافة الخوف الطفولي، فيجب أن يمتدح الطفل على كل خطوة شجاعة وتقديم مكافأة مادية له حين يظهر مدى شجاعته في موقف كان يتخوف منه، وتضيف الدراسة طريقة من الجيد أن يستخدمها الطفل حين يتعرض للشعور بالخوف وهو أن يتحدث مع نفسه بأن تلك المخاوف لا أساس لها من الصحة ولا وجود لها كي يشعر بالتحسن.
هذه الدراسة من الأهمية بحيث أنها أوضحت الأسباب وطرق علاج ثقافة الخوف الطفولي التي يتعرض لها الطفل، فالخوف غالبا ما يحد من مقدرة المرء على الإبداع والتقدم في حياته أو استقبال الحديث والجديد بعد أن سيطرت لديه فكرة الجمود والرضا بالمتعارف عليه وعلى أغلب الناس من حوله، فحين ينشأ المرء منذ الصغر على فكرة الأوهام والأساطير سيؤدي إلى أن يبرر أي فعل أدى إلى فشله إلى أسباب غير عقلانية أو منطقية، ومن ثم تخلق بيئة مريضة بالوهم والخوف، مما يؤدي غالبا إلى عدم مقدرته على مواجهة تلك المخاوف لإيمانه بها و سيطرتها على حياته وحياة الأفراد من حوله، فثقافة الخوف تؤدي إلى الإيمان والاعتقاد الشديد بالخوف، وقد تنشئ الفرد على أخلاقيات مبدئها الخوف من المجهول والخرافات والأساطير والعقاب، فحين تنشئ الفرد في بيئة تخشى من تقبل الأفكار وتحارب المستحدث والجديد، وتصل إلى قتل أية فكرة ترغب بالتفرد والتميز عن المتعارف عليه فتلك إشكالية سببها ثقافة الخوف، ولكن هذه الإشكالية تصبح خطيرة جداً حين تؤدي إلى القتل أو التسبب بإصابة الأفراد حاولوا الخروج من دائرة الخوف التي يخلقها مجتمع لا يرغب بالخروج عن تلك المبادئ التي رسمتها ثقافة الخوف في حياتهم، ونحن بحاجة إلى الإصغاء إلى ذواتنا وإلى تعزيز فكرة تقبل الاختلاف وعدم الخشية منه.

نشرت بجريدة الرؤية بتاريخ : 21/ نوفمبر/2012