أقوال

إن الأمة المستعبدة بروحها وعقليتها لا تستطيع أن تكون حرة بملابسها وعاداتها .(جبران خليل جبران) _______ الصمت ينطق، والخوف ينتصر على نفسه، والجدار السميك يصبح أشلاء متهاوية على الأرض. (عقل العويط)

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

غياب علم الفلسفة في المنهج الجامعي إلى متى؟



الفلسفة هي أحد أهم العلوم الإنسانية المعنية بنظرة الإنسان إلى الكون، وهي عبارة عن سياق تاريخي لمجموعة من المعارف والأفكار لماهية وجود الإنسان على الأرض، بأسلوب واع وعقلاني وأفكار منضبطة ومتناسقة ذات زخم من الاستنتاجات لمجموعة من الاختلافات الناتجة من البيئة الفكرية للبشر، كما أنها تعنى بطرح المشاكل العامة والأساسية المرتبطة بالواقع المعاش، كالوجود والمعرفة والقيم والسبب والعقل واللغة. اعتمادها الأساسي على الحجة العقلانية، العقلانية التي هي أساس الفلسفة، فهي تركز على المعرفة العقلانية كمصدر منطقي وتلقائي وطبيعي للاختلافات الفكرية، كما أن الفلسفة تتطرق إلى المعتقدات الأساسية والمفاهيم والمواقف لدى الأفراد والجماعة.
كلمة فلسفة تأتي من التاريخ اليوناني القديم وهي تعني حرفياً "حب الحكمة"، وأول من استخدم لفظ الفلسفة هو الفيلسوف اليوناني فيثاغورث، ومن ثم انقسمت إلى مجالات مختلفة منها المعرفة والمنطق والميتافيزيقيا والأخلاق وعلم الجمال، لتبرز أهمية علم الفلسفة في اكتساب المعرفة من العالم، وبالتالي فهمه واستنباط استنتاجات حول طبيعته، لإدراك الوجود بطرق مختلفة ومتنوعة، للبحث واكتشاف الحقيقة، فلكل منا له فلسفته الخاصة في الحياة ومناهج معينة يحددها بحسب مقدرته للوعي بأهمية البحث عن الوجود وأهميته بالنسبة إليه، ولا يتم ذلك سوى بالإدراك، أي بمعنى التحفيز الحسي للدماغ كشكل من أشكال النشاط الفكري المستقل، ينتج عنه الإدراك الواعي بالكيان والذات والآخر والكون من حوله. والمعرفة ليست تلقائية بل تحتاج لمحفز وهو الإدراك، من خلال البحث عن المعرفة الخام بدون تأثير الآخر أو تلقينها له، وبالتالي دمجها مع المعارف الأخرى التي استنبطت في السابق، كي تكون بين الإنسان والعالم صلة خارجية متواصلة منبعها فكري في الأساس، فهي لا تجامل بل تحلل المواقف والأفكار بحسب رؤية إنسانية بحته، خاضعة لنظريات مقسمة تحاول استيعاب الاختلافات التي يمر بها الإنسان، كما أن الفلسفة بالنسبة لي هي نوع من أنواع الفنون التي تكشف الجمال الفكري للإنسان، فهو تحاول أن ترسم الأفكار الخام بحسب رؤى خاصة للحياة، كما أن كل حركة عبر التاريخ "فاشية، ماركسية، ليبرالية، ديموقراطية الخ" استمدت من فلسفة خضعت لتغييرات فكرية لدى الإنسان كنظام فلسفي خضع له هو بالتالي، فالإنسان قائد نفسه من خلال القيم والأفكار والتساؤلات الفلسفية التي دمجها مع الواقع والمعارف التي اكتسبها، ولكنه كذلك يتأثر بفلسفة الآخرين للحياة وهذا وارد من خلال ارتباطه الوثيق بالجماعة.
قيمة الفلسفة هي بتأثيرها على الدماغ لحثه على التفكير، ولا يحدث ذلك إلا بصفاء الذهن لأجل المساحة الخاصة لاستخدامه، فهي تعطي الإنسان المجال للإجابة عن التساؤلات التي تثير الريبة لديه، أو ربما تعطي له مساحة للتشكيك بأفكار غير إنسانية كتفاعل لابد منه، ولا يتم ذلك إلا عبر دراسة أكاديمية مميزة تخضع للتاريخ للنقد وطرح التساؤلات حولها، ولكن للأسف فأن التجربة الأكاديمية للدراسة المنهجية للفلسفة لا تتوفر في مناهجنا التعليمية، ولأسباب غير معروفة وواضحة، أو ربما لأسباب تختص لجماعة محددة ترفض علم الفلسفة بسبب كونه علما يُخضع جميع العلوم الأدبية للتحليل والنقد، فالفلسفة منهج يختص بالتأمل العقلاني الحر الغير خاضع لأي مورثات تؤثر على الإدراك المعرفي الواعي، وإبداء الرأي حول المورثات التاريخية السابقة كحلقة نقاش تحيي لدى الفرد نشاط دماغه، والسعي إلى تغيير الأوضاع والأفكار البالية باستمرار وفق المعطيات ومتطلبات العصر والإمكانيات المتاحة، فيتحرر التفكير الواعي الناقد المبدع المجدد من سياسة الاستبداد والفساد، وللأسف فمؤسساتنا الثقافية تهمل الجانب الفلسفي بشكل ملحوظ جدا، ولا تعطيه أهمية، ونشرت بالمجتمع ثقافة الانشغال عن تنمية وتغذية الدماغ كثقل لا يستطيع الفرد العادي تنميته واستبدلته بالبحث عن لقمة العيش والهوس بالجري وراء التكنولوجيا الرقمية وشبكات التواصل.
تطرق الكاتب علي الرواحي في كتابه "الأصولية والعقلانية" في ملحق: غياب مادة الفلسفة من المناهج التعليمية العمانية، تساؤلات حول الأسباب من غياب الفلسفة عن النهج التعليمي، ووضع دراسات مميزة عن الأوضاع التعليمية في السلطنة، وأعداد التخصصات المتوافرة فيها مع الكليات الخاصة أو الحكومية، بالإضافة إلى نتائج الإيديولوجيا الرسمية المستقبلية وسأضيفه في المقال كضرورة لابد منها: "بناء على المقدمات الإحصائية المذكورة في الكتاب، نجد أن هناك الكثير من التخصصات تم تغييبها بشكل مؤسسي ممنهج من أهمها طبعاً: الفلسفة، وعلم الاجتماع" هناك تخصص في الجامعة يخرج موظفين وليسوا باحثين"، وتخصص الأنثروبولوجيا والمنطق ونظرية المعرفة.. الخ، هذا التغييب الممنهج أدى إلى ضمور، إن لم يكن اختفاء النزعة الإنسانية والفلسفية في الأعمال المكتوبة على سبيل المثال، فبحسب الاستقراء السابق للإنتاج المعرفي، لم نجد أي عمل محلي يناقش قضايا ملحة، ومصيرية، بأسلوب فلسفي أو فكري، كالحرية والديمقراطية ومفهوم الدولة ومفهوم الوطنية.. وغيرها من هذه المواضيع التي تشير إلى حيوية الطرح الثقافي، وحركة الفضاء العام".
ويضيف علي الرواحي أن "ضمور الفلسفة أدى إلى تقلص دور الكاتب العماني، وتهميشه إلا ما ندر، وانحسار هذا الدور في الكتابات الإبداعية والأدبية، ثم يطرح تساؤلات مهمة حول الفلسفة: هل الفلسفة إيجابية للفرد بشكل خاص؟ والدولة بشكل عام؟ ام سلبية؟ ولماذا؟ فالفلسفة عبر التاريخ تعني بضرورة إحياء المناقشات حول التساؤل والشك والنبش والحفر والتقصي وعدم الركون للأجوبة الجاهزة في مختلف الجوانب. الفلسفة تعني الحيوية وتجاوز الذات وخلق المفاهيم وهدمها، أي بمعني إعادة توليد الثقافة الفلسفية باستمرار"، ومن ثم يتطرق علي الراوحي إلى مساهمة الفلسفة في التنمية، "ففي الجانب الفكر المؤسسي تتجاوز الفلسفة الفكر التقليدي بكل جوانبه القبلية والعرقية والمذهبية وتهتم بالمواطن على أساس الإنتاج والكفاءة، ومن ناحية الفلسفة والتنمية فهي تعني بتنمية الشأن العام مقابل المصلحة الفردية للتفكير بتنمية الدولة من قبل الجميع، يعني أن الآخر يتم قبوله بل وتشجيع اختلافه مع الذات الأمر الذي يؤدي إلى انتشار التسامح بين الجميع، كما أن المرأة والفلسفة تعنى بتحقيق الفضاءات الفكرية المتنوعة التي تسهم في جعل دور المرأة مشاركا فعليا وليس شكليا في المجتمع"، ومن ثم يطرح دور الفلسفة والوعي الجماعي الذي يساهم في بناء المبادرات الفردية للمصلحة العامة بعيداً عن التأثيرات من قبل المؤسسات الفوقية.
ومن أجل ذلك نحن بحاجة ماسة إلى تدريس علم الفلسفة وتخصصات العلوم الإنسانية في التعليم الحكومي العام لما لها من دور أساسي ومهم في بناء فرد قادر على البحث عن المعارف العقلانية الواعية وإدراك حاجياته من الحياة بوعي، فغياب علم الفلسفة يعني غياب الحرية، حرية الفكر والرأي والتعبير التي هي أساس أي دولة تهتم بتنمية قدرات الإنسان الفكرية لأجل التنمية الثقافية التي هي أكبر محرك للتنمية الاقتصادية في أي دولة.



نشرت في جريدة الرؤية بتاريخ 29/يوليو/2013م

ليست هناك تعليقات: