أقوال

إن الأمة المستعبدة بروحها وعقليتها لا تستطيع أن تكون حرة بملابسها وعاداتها .(جبران خليل جبران) _______ الصمت ينطق، والخوف ينتصر على نفسه، والجدار السميك يصبح أشلاء متهاوية على الأرض. (عقل العويط)

الأربعاء، 6 فبراير 2013

الكسل والعمل


 

خلال الأسبوعين الماضيين استمتعت كثيرا بالكسل، وأقصد به الكسل الكتابي الذي أوقف رغبتي بكتابة المقالات لمدة أسبوعين، وجعلني أحاول الاستمتاع قدر الامكان بعبث التفكير بدون الكتابة، وعدم الرغبة بتوثيق ما يحدث في المجتمع لفترة محدودة من الزمن، فحينما تحتك بالمجتمع كثيرا تفقد الاستقلالية وتفقد ذاتك، وأقصد بذلك هنا رغبتي بالكتابة، فالانعزال للكتابة له كينونته الخاصة التي تفقدها حالما تفتح باب للولوج إلى العالم.

 وعلى سبيل المثال حول الكسل أخص بالذكر هنا الكاتب الفرنسي من أصل مصري ألبير قصيري- الذي اقام في فرنسا وجميع روايته باللغة الفرنسية- فيلسوف الكسل أو كما يحلو للبعض تسميته بإله الكسل، فألبير لا يعتبر الكسل رذيلة وإنما دافعاً للتفكر والتأمل، فالنسبة إليه هناك القليل جدا من العيون التي ترى الجمال في العالم وتتأمله وتتفكر به، كما أن ألبير أعتبر العمل الذي دافعه المادة فقط تفقد الإنسان قيمته ويصير عبداً لها، وحين سؤاله لماذا تكتب اجاب أنه لا يعرف عمل شيء سوى الكتابة، وبحسب التصنيفات فأن رواياته في الغالب ترتبط بالكسل كفلسفة وجودية مرتبطة بالإنسان، ففي رواية "كسالى الوادي الخصيب" شخصيات الرواية لم تغادر المنزل ابداً، ويرى ألبير أن عيشه في سان جريمان ساعده في الكتابة لعدم مقدرته على العيش في حي هادئ وكما أن حي سان جيرمان وفر له جميع حاجياته، وأرى هنا أن ألبير قصد من الكسل هو الرغبة بالانعزال عن العالم وعن ترف المادة من أجل الكتابة الذي أسهمت في التأثير على الفلسفة التي كان يتبناها وهي فلسفة الكسل، وفلسفة الكسل الذي يقصدها ألبير توحي بالبساطة والوضوح، وتجلب الصفاء الذهني للذين يعرفون كيف يعيشون، أو بمعنى البطالة من أجل التفكير، من وجهة نظري فأن الذي يتبنى هذه الفلسفة في الوقت الحالي يجب أن يتماشى المجتمع مع هذه الفكرة، فالكسل من أجل التأمل والكتابة يحتاج كذلك لمصانع من أجل جلب الادوات الكتابية وتجهيز المكان من حولنا بما يساعد رغبتنا بالانعزال لأجل الكتابة والكسل لأجل التفكير.

ومن ضمن الكتاب كذلك الذين امتدحوا الكسل واثنوا عليه الفيلسوف والناقد الاجتماعي برتراند راسل، في كتاب " في مديح الكسل "، فقد قدّم برتراند راسّل في كتابه ملاحظة: "إنّ الاعتقاد بأنّ العمل فضيلة هو سبب شرور عظيمة في العالم الحديث، والطّريق إلى السّعادة والرّخاء يمرّ عبر التّخفيض المنظّم للعمل". فالتّقنية وتقدّم الإنتاجيّة يمكن أن يسمحا لنا بالتخلّص من العبوديّة عبر التّقليص الجذريّ لوقت العمل" فقد اعتبر برتراند العمل حينما يتسلط على راحة الجسد والفكر كالإنتاج الغير المجدي أو كالاستعباد، وذلك ما حاول طرحه وشرحه في كتابة بعد أن لاحظ أن عدد ساعات العمل في المصانع قد زادت وأثرت في طريقة التفكير لدى العمال من حيث الفكرة المادية البحتة في المنتوج، فبالنسبة لـ برتراند ألاّ نعمل، لا يعني بالضّرورة ألاّ نفعل شيئا، بل أن نفعل شيئا آخر، وما يقصده هنا راحة النفس والجسد لأجل الإنتاج الفكري.

الكسل في كل ما سبق ذكرته في الاعلى كفترة نقاهة يحتاجها فكر الإنسان كي يعيد ترتيب أولوياته ويساهم بالإنتاج بطريقة مبدعة ومميزة، كما أن الكسل لدى هؤلاء الكتاب كان في مجتمع يعترف بحرية الإنسان الذي يعتبرها أهم مفتاح لأجل إنتاجية المجتمعات المدنية، ولكن المعتقدات في مجتمعنا أعتبر الكسل أحد أكبر الرذائل، وأعتبر العمل عبادة، ومع هذا للأسف فأن أغلب الأعمال التي في المجتمع تأتي من باب عدم الرغبة ولكن مرغماً، فالإنتاجية هنا غالباً لا يميزها شيء، وانتفى منها الابداع الذي لم تؤججه البيئة العملية، وأغلب الموظفين أنوجدوا في أعمالهم من أجل الراتب في نهاية الشهر لا أكثر، وأصبحت بيئة العمل غالباً مترعاً للكسل السلبي، وأقصد بالكسل السلبي في هذه الحالة العمل المرغم عليه والذي يستعبد الإنسان ولا يساهم في التميز، وليس الكسل الايجابي كنقاهة من أجل العودة بعدها للإبداع الحر ، بل أصبح أسلوب حياة في مجتمع البيئة العملية لدينا، فقد نشأ الافراد على ذلك منذ الصغر حتى الوصول إلى المراحل الدراسية، التي في الغالب سيركز فيها الطالب مع ما يتناسب من مخرجات الوظائف التي سيوفرها المجتمع له بعد ذلك، ونعيد أنتاج الكائن المستعبد للعمل الكسول والغير مميز، وهذه الحالة أشبهها بما ما كان يحدث في فترة التاريخ الروماني حيث أن من كان يقوم بالأعمال الشاقة هم العبيد، ومن كان يقوم بالأعمال الفلسفية والفنية وغيرها من الاعمال الفكرية هم من الاحرار ، فقد كانوا يعتبرون العمل الشاق للمستعبدين، والاعمال الحرة التي تحتاج لتفرغ للأحرار، وما يحتاجه المجتمع هو فترة طويلة كي يعيد تنظيم النظرة الخاصة لفردية الفرد من أجل ذاته، ومن أجل فهم البيئة النفسية المنتجة في المؤسسات الجماعية، فالوضع الحالي لا يزال بعيدًا عن الخبرة الراغبة بالتميز في المجالات الفكرية العلمية والعملية لدى الافراد.
 
مقالي المنشور بجريدة الرؤية بتاريخ 6/ فبراير/2013

ليست هناك تعليقات: